اقترب، سأهمس في أُذنك كلمة

2023-02-18

حسن أكرم

فكّرتُ لسنوات طويلة أن أُخفي عن الناس قصَّتي، أن أحرص على نفي نفسي بعيداً عن أنظار الناس وذاكرتهم. لكن حينما اقترب موتي، وشعرت أن حياتي كلّها ليس لها معنى، وأني لو تحدَّثتُ أو صمتُّ، فالأمر سيّان، قلتُ لأسلّي نفسي، وأنا أراقب الوقت البطيء الذي يمرّ في هذا المشفى الكئيب.

لو أن لكلماتي قيمةً وحظّاً، لوصلتُ إليكم، وأخبرتكم بالحقيقة، ولو أنها لم تلق رواجاً، فمثلها مثل عمري الذي لم يلق رواجاً أبداً.

الآن، لئلّا أبدو ثقيل الدم أو متلاعباً، سأحكي لكُم القصة كما هي، وأحدّثكم عن اللحظة التي صيّرتني إلى ما أنا عليه الآن.

لنقُلْ إنّي كنت موظّفاً ملتزماً، ولا يهمّني فهمُكم لمعنى الالتزام الآن، ما يهمُّني أنَّكم تملكون الآن صورة جزئية عن وضعي كموظَّف في شركة نفطية بارزة، وكنتُ فيها بمنصب ومرتّب جيدين، ولنقل إنني كنت إنساناً مُتّزناً، أي أنّي أعادل روح الشيطان داخلي بروح إنسانية طيِّبة، لذا تجدُني رجلاً عادياً، يضحك مرّة، ويسيء وينتفض مرّة، ويتصرّف بكرم وحُسن نية مرّات، ويبخل بأبسط الأشياء مرّات أُخرى.

لكنْ يومَ أرسلوا لنا ذلك الشابّ الخطير، كان بعمر صغير جدّاً ليقودَ شركتنا، حتى أنه تعمّد اختيار قَصّة شَعر تُظهر لنا نضجه المزيَّف، وحتى ثيابه لم تنجح بإخفاء حقيقة أنه صغير جدّاً ليكون مديراً هنا. ربما لم يتجاوز الثامنة والعشرين، لكنه كان يملك نظرة خطيرة ومرعِبة، علمتُ يومها أن لهذه النظرة حظاً كبيراً في أن يكون هنا الآن، أقصد على رأس الملاك الإداري للشركة.

راقبته كثيراً، كنتُ أودّ معرفة سرّ تلك النظرة الشريرة التي تتوهّج في عينيه، كيف لرجُلٍ مثله أن يحظى برضى كلّ مَن حوله؛ رغم فقدانه الشروط الأساسية لمنصبه الحسّاس هذا.

هل أنت فخورٌ بإنسانيتك، هل تريد أن أنسف هذا كلّه بكلمة؟

حتى أنه مرّةً عثر عليّ في غرفة مكتبه أتفحّص كتاباً ثخيناً كان يقرأه، لقد كتب في صفحة منه ملاحظات تكفي لتأليف كتاب آخر، تبرز من أطراف أوراقه آلافُ الملاحظات المثبّتة بملصقات ملوّنة، حتى تخيّلت أنه يأكل الكتب ولا يقرأها.

كنت غارقاً في دهشة ما عثرتُ عليه، حتى همس بأذني ليخيفَني، لم يكن لحضوره المفاجئ وقعٌ على قلبي المرتجف، أكثر من وقع كلماته في أُذني.

قالها وهو يبتعد عنّي ببطء إلى الخلف: "لو كنتَ تريد أن تعرف مَن أنا، سأخبرك جملة واحدة، تفسِّرُ لك كلّ هذا: أنا رجل لم يبكِ في حياته قط".

نفذت إليّ هذه الكلمة كأنها مصل في الدم، ومن لحظتها، تحوّلت لوحشٍ مثله، لا يبكي، ولا يرفّ له جفن أبداً، مخيف في خياراته، ولا يتردّد في الإساءة إلى أحد، وما إنْ يوضع أمامي خيار الشر والخير حتى أختار الخيار الأرذل، والقرار الذي يخلو من الرحمة.

لقد أصبحتُ مجرماً فعلياً، فقدتُ إنسانيتي، وتلوّثتْ روحي. صرتُ مثله تماماً، حتى أنني كنت قادراً على تلويث أرواح الآخرين. فلو كنتَ تقرأ هذا الآن، وشعرتَ أنك تريد ذلك فعلاً، وتجد في نفسك القدرة على المُضيِّ إلى النهاية، تعالَ واقترب منّي، لأهمس لك بكلمة، تُردِي روحك، وتنفخ في صدرك شيئاً من روح الشيطان.

تعالَ واقترب.

هل تشعر أنك بعيدٌ عن هذا، هل تُحدِّث نفسَك الآنَ بأنك فخورٌ بإنسانيتك، وأنك أبعد من أن تصير شيطاناً؟ هل تريد أن أنسف هذا كلّه بكلمة؟

سأقولها الآن.

هل ما زلت هنا؟

"لقد مسّتك روحي، وأنت تقرأ هذا أيها الغبي".

كاتب من العراق








كاريكاتير

إستطلاعات الرأي