
رسالة رئيس الـ CIA بشأن التخوف من اندلاع انتفاضة ثالثة هي أيضاً رسالة جهاز الأمن للحكومة في أننا نقترب من تصعيد أمني دراماتيكي في يهودا والسامرة. سجل الأسبوع الأخير خطاً براغماتياً ومعتدلاً لرئيس الوزراء بنيامين نتنياهو ووزير الدفاع يوآف غالنت، في محاولة لتفكيك ألغام ومحاولة وقف ميول التصعيد. إخلاء الخان الأحمر تأجل، ومصلحة السجون رغم الإعلانات أدارت حواراً للتسوية مع قادة السجناء الأمنيين في السجون، وعمارات في شرقي القدس لم تخلَ.
أو بكلمات أخرى، اتخذت الحكومة الحالية سلسلة أعمال لتهدئة المنطقة لو أنها وقعت في عهد الحكومة السابقة لنالت شجباً حاداً من وزراء الائتلاف الحالي. ومع ذلك، لا نوصي بالمسارعة للإعلان بأن سموتريتش وبن غفير تراجعا قليلاً إلى الوراء.
المصاعب الجوهرية في تنفيذ الاتفاقات الائتلافية بالنسبة لصلاحيات بتسلئيل سموتريتش على الإدارة المدنية وأساساً رسالة الأمريكيين الواضحة بأنهم لن يبدوا تسامحاً مع أعمال إسرائيلية من طرف واحد، بينها بناء جديد في “المناطق” [الضفة الغربية] – تبشر الآن بالمتفجرات السياسية التي على الطريق.
إن مسألة البناء في “المناطق” وتوسيع المستوطنات تلوح كاللغم المركزي لنتنياهو، في شكل تورط مع الأمريكيين أو تهديد على استقرار ائتلافه. يسعى نتنياهو تجاه الأمريكيين ليوضح بأنه لا تغيير في السلوك إزاء السياسة الإسرائيلية في “المناطق”، بينما يتعهد تجاه الوزراء من اليمين بالتغييرات التي وعد بها في الاتفاقات معهم. يتعين عليه أن يتراجع عن وعد واحد أو عن اثنين.
أيام ما بعد أبو مازن باتت هنا، في “يهودا والسامرة”، مقابل وليام بيرنز، رئيس الـ CIA الذي قال في خطاب في جامعة جورج تاون إن الوضع المتوتر في الميدان يذكره بعشية الانتفاضة الثانية، لا يتحدث جهاز الأمن بعد عن مفاهيم انتفاضة ثالثة، لكنه يتبنى موقفاً مشابهاً لأن احتمال تصعيد دراماتيكي آخر في الميدان أعلى بكثير مما كان في السنوات الماضية. مع حلول رمضان، الذي يأتي في نهاية الشهر القادم، وتعتقد قيادة الجيش بأن زاوية الدخول إلى الشهر المتوتر هذه السنة هذه المرة حادة وخطيرة على نحو خاص.
بيرنز، فضلاً عن منصبه الرسمي، يعتبر في نظر كبار رجالات جهاز الأمن عندنا رجلاً مهنياً من الدرجة الأولى وذا تجربة ومعرفة كبيرة في كل ما يتعلق بالشرق الأوسط، وإسرائيل والفلسطينيين. إضافة إلى منصبه في الماضي كسفير الولايات المتحدة في الأردن، تولى بيرنز منصب مساعد وزير الخارجية لشؤون الشرق الأوسط في الإدارة الأمريكية.
خطاب بيرنز لم يأتِ فقط لغرض محاضرة ثقافية في جامعة وإبداء معرفة في موضوع الشرق الأوسط. يبدو أنها رسالة حادة اختار الأمريكيون نقلها للحكومة في إسرائيل وربما أيضاً للفلسطينيين، بشأن الاقتراب من حافة الهوة ومواجهة عنيفة سيصعب التراجع عنها. قول حاد كهذا يكاد يتوقع نشوب انتفاضة أخرى في “المناطق” لم يصدر عن أي مسؤول أمريكي منذ سنوات عديدة، خصوصاً بهذا الشكل الحاد.
بلور بيرنز صورة الوضع لديه بعد اللقاءات التي أجراها في البلاد. أما في قيادة المنطقة الوسطى، والجيش و”الشاباك” فاللغة مختلفة. ومصطلح انتفاضة ثالثة كما أسلفنا ليس منتشراً. يقترب بيرنز بقدر كبير جداً في مواقفه من مسؤولي جهاز الأمن، حيث أقام رئيس الـ CIA أقواله على أساس الاستعراضات والمحادثات التي أدارها هنا مع كبار رجالات منظومة الأمن.
الرسالة الأمريكية واضحة بين السطور، وقيلت في اللقاءات التي أجراها رجال أساسيون في الإدارة الأمريكية في المحادثات التي أداروها هنا أيضاً مع رئيس الوزراء ووزير الدفاع. فتوثيق التعاون، ومعركة مشتركة تجاه إيران، وسلام مع السعودية، لا يمكن حدوثها معاً مع تصعيد كبير في “المناطق” وانعدام رضى أمريكي عن السياسة الإسرائيلية في “المناطق”.
إن تأجيل إخلاء الخان الأحمر، وكبح نوايا بن غفير لإخلاء المبنى غير القانوني في وادي قدوم في حي سلوان في شرقي القدس، والحوار والتوافقات التي تحققت – رغم الإعلانات عندنا – بين مصلحة السجون وقادة السجناء الأمنيين في السجون الإسرائيلية، إنما تجسد الفهم الإسرائيلي للموقف الأمريكي الذي يطالب بسياسة براغماتية ومعتدلة لا تختلف جوهرياً عن السياسة التي أدارتها الحكومة السابقة والتي انتقدها رئيس الوزراء بشدة.
4 عوامل مركزية
بعد أسابيع أملى فيها سلوك محرر للوزراء في الحكومة جدول الأعمال وسخن الجبهات، تمثل هذا الأسبوع بمحاولة لتقليص فوارق الجدال داخل الحكومة والاجتماع عند السياسة التي يسعى رئيس الوزراء لاتخاذها في المجال السياسي الأمني. كل هذا صحيح حتى الأزمة التالية التي ستنشب حول موضوع البناء في المستوطنات.
من خلال ما نشرته في صحيفة “هآرتس” هذا الأسبوع، يتضح أن وزير المالية طلب من رؤساء مجلس “يشع” للمستوطنين أن يعملوا في مواقعهم كي لا تقام بؤر استيطانية غير قانونية جديدة. بالمقابل، أوضح في بداية جلسة كتلته بأن الحكومة ملتزمة بتسوية الاستيطان وتنميته وإقامة مستوطنات جديدة. هذا الموضوع سيصعب على نتنياهو توفيره في وجه الضغط الأمريكي الذي يطالب بالامتناع عن خطوات من طرف واحد.
هذا توتر دائم سيتعين على الحكومة في السنوات القادمة التصدي له. قرارات لجنة التخطيط العليا في كل ما يتعلق بالبناء في المستوطنات تصل للقرار السياسي الأعلى وللبحث حتى مع جهات رسمية في الولايات المتحدة. هذا التوتر حلته الحكومة السابقة في أنها أقرت بناءً فلسطينياً في المناطق “ج” إلى جانب البناء في المستوطنات اليهودية.
أما نتنياهو فلن يجمد البناء في “المناطق” مثلما فعل إبان إدارة أوباما، وهذه الرسالة نقلها للأمريكيين. بالمقابل، وفي ضوء الصلاحيات على الإدارة المدنية التي لم تنقل بعد إلى سموتريتش وتوجد صعوبة حقيقية في تحقيقها، فإن الأزمة السياسية التالية باتت على الأبواب. وواضح أنه لا يمكن أن يفي رئيس الوزراء بشكل كامل بالتعهدات التي قطعها على سموتريتش – حتى لو توفرت قريباً آلية تزيد تدخل رئيس الوزراء في إقرار مسائل مختلفة تتعلق بالإدارة المدنية، كنوع من المحكم الأخير بين غالنت وسموتريتش.
إن نقطة الضعف المركزية لحكومة نتنياهو في الجانب الأمني كفيلة بأن تكون عدم انعدام سموتريتش للمساومة على مبادئه الأيديولوجية وإصراره على تنفيذ كل الوعود التي قطعت له عند التوقيع على الاتفاق الائتلافي.
أربعة عوامل مركزية تشكل بشكل تقليدي كمحفزات للتصعيد في جهاز الأمن: الأول هو عدد قتلى عال في الجانب الفلسطيني؛ الثاني، هو صراعات على الأراضي في المنطقة ج؛ الثالث، هو السجناء الأمنيون؛ والرابع، هو التوتر في الحرم. ويشخص جهاز الأمن ميولاً سلبية تؤثر على الميدان.
منذ بداية السنة يحصي الفلسطينيون 39 قتيلاً. ولكن إسرائيل ترى أن أغلبية القتلى مخربون نفذوا عمليات أو قتلوا في تبادل لإطلاق النار مع قوات الجيش في مخيمات اللاجئين. أما من ناحية الفلسطينيين، فالرواية بالطبع مختلفة، وعندما تكون الأعداد بهذا القدر، فثمة ما يمكن أن نتعرف من خلاله على الوضع في الميدان.
لغرض المقايسة، ففي السنة الماضية، التي هي الأخرى كانت شاذة، قتل 160 فلسطينياً. أما المعطيات منذ بداية السنة فتكاد تكون مضاعفة وتبلغ بالمتوسط قتيلاً فلسطينياً في اليوم. معظم الفلسطينيين قتلوا في أثناء أعمال للجيش في مخيمات اللاجئين. في هذا الشأن، أوضحت أوساط إسرائيل للأمريكيين بأنه لا مساومة وأن ضعف السلطة وأجهزة الأمن يستوجب من الجيش العمل في مخيمات اللاجئين.
كل حدث شاذ مع قتلى كثيرين يعتبره جهاز الأمن محفزاً لزيادة الدافع للثأر وتنفيذ عمليات. بعد ساعات من تصفية المخربين في مخيم لاجئين قرب أريحا، وقع انفجار في سيارة في مخيم اللاجئين جنين. هوية النشطاء الذين ينتمون على ما يبدو لحماس، لا تدع مجالاً للشك لدى جهاز الأمن بأنها حادثة عمل في تركيب سيارة متفجرة قد تكون معدة للثأر على تصفية نشطاء التنظيم.
يقدر جهاز الأمن بأن حماس ستحاول تنفيذ عمليات ثأر في الضفة أو في أراضي إسرائيل. رغم العدد العالي للقتلى في صفوف التنظيم، لم تطلق صواريخ من القطاع. لم يكن هذا مفاجئاً؛ كون التصعيد في الضفة يخدم أهداف حماس ضد إسرائيل وضد السلطة الفلسطينية، وذلك بينما مكانة حماس في الجمهور الفلسطيني داخل الضفة في ارتفاع بعد حملة “حارس الأسوار” في غزة.
ترى قيادة حماس أن هذا هو دور الضفة لتتصدر المقاومة ضد إسرائيل، ولتقود الانتفاضة الشعبية. توجه قيادة حماس جهود التحريض في الشبكات الاجتماعية وفي تخطيط عمليات الإرهاب. تفضل حماس عدم وقوع المواجهة العسكرية الأخرى في غزة، إلا بعد أن تشتعل الأرض في “المناطق”، وفي شرقي القدس وفي المدن المختلطة داخل إسرائيل.
إيجاد التوازنات
سيواصل الجيش العمل في مخيمات اللاجئين أمام ميل الإرهاب المتعاظم، وهذا قيل أيضاً للأمريكيين. ومع ذلك يسعى جهاز الأمن في المسائل الحساسة الأخرى، ومنها الحرم ومناطق ج والسجناء، لخفض مستوى التوتر وعدم إشعال نيران أخرى مثلما فعل الوزير بن غفير في شرقي القدس وفي السجون الأمنية في الأسابيع الأخيرة عدة مرات، بالذات في ذروة توتر أمني.
يعتمل تحت السطح غضب الشباب الفلسطيني ممن لا يثقون بقيادة السلطة ويعتقدون أنه يجب العودة إلى انتفاضة عنيفة. وينبغي أن تضاف إلى هذا قطيعة مطلقة في المستوى السياسي بين تل أبيب ورام الله والتنسيق الأمني الجاري بشكل جزئي جداً من تحت السطح. هذا الخليط المتفجر قد يعبر عن نفسه في شهر رمضان القريب سواء بعمليات أم بانتفاضة شعبية، وإن كان الجمهور الفلسطيني لم يخرج حتى الآن إلى الشوارع.
يحاول جهاز الأمن، بما في ذلك الوزير نفسه، إيجاد التوازنات في هذه المتاهة لتخفيض مستوى الضغوط وتحرير صمامات الضغط الاقتصادية قدر الإمكان. ولكن عندما تكون قطيعة مطلقة بين إسرائيل والسلطة تصبح هذه المهمة معقدة. وعندما ينعدم الحوار بين الطرفين، وتغيب علاقات عمل رسمياً على الأقل، فإن الأدوات التي لدى جهاز الأمن في محاولة تخفيض التوتر تكون محدودة جداً، وتلي ذلك تقديرات متشائمة.
من المهم الإشارة إلى أن جهاز الأمن يحذر طوال سنين من وضع آخذ بالتدهور في “المناطق” [الضفة الغربية]. فترة الأعياد، ورمضان للمسلمين، والفصح لليهود، تعد كلها على نحو شبه دائم نقطة اختبار للاستقرار الأمني. مثلما في كل سنة، يصلي جهاز الأمن بأن تمر هذه الفترة بهدوء نسبي.
بقلم: تل ليف رام
معاريف 10/2/2023