"افرح يا قلبي" لعلوية صبح: بين الفانتازيا والتاريخ

2023-01-15

عباس بيضون

ليست رواية علوية صبح الأخيرة دعوةً للفرح كما يدلّ عنوانها: "افرح يا قلبي" (دار الآداب، 2023). الرواية في خاتمتها تحشد الفواجع؛ رولى، الزوجة، تصاب بطلقة في رأسها أثناء احتفال، وغسّان يواجه سقوطاً وشيكاً لطائرته. هذان لا يمتّان إلى الفرح بشيء، إنهما يفاجئان في نهاية الرواية، بخاتمة غير منتظرة، وبفاجعتين تتلاحقان، على غير توقّع. هكذا تُنهي علوية صبح روايتها.

أمّا العنوان، المستمدّ من أغنية لأم كلثوم، فيمتّ إلى الموسيقى، إنه احتفال بأم كلثوم وبالموسيقى بوجهٍ عام. بطل الرواية، غسّان، موسيقي، والموسيقى حياته وعالمه. للأشياء أصوات وإيقاعات، الطبيعة وموجوداتها جميعها تُصدر أصواتاً، ولجميعها ألحانه وموسيقاه. هذا الشغف يغطّي على حياة غسّان، ويُخالطها ويطبعها. يمكننا لذلك أن نتكلم عن غسّان كمهووس بالموسيقى. عنوان الرواية يرتدّ إلى هذا الهوس، الذي ينقلب على نفسه، ويتحوّل إلى نهايات تراجيدية، كتلك التي تُفاجئنا في خاتمة الرواية.

قد يتراءى أن الرواية هي رواية هذا الهوس بالموسيقى، بل هي، في أجزاء منها، هذا التغنّي بالموسيقى، إرثها البعيد بشكل خاصّ. هذا ما يردّنا إلى العُود، بحيث يتحوّل الكلام إلى نوع من نجوى، إلى إنشاء ومديح للعود. غسّان، منذ طفولته، يسمع هذا الهمس الذي يتردّد من الأشياء ومن الموجودات. الطبيعة والكون يترجّعان ويتوقّعان، ويُصدران أصواتهما الخاصة. نحن هنا أمام فانتازيا الأصوات، أمام هذه الموسقة للكون بأسره. ليس غسّان سوى هذا المتلقّي لبوح الأشياء، وموسيقى العالم المتّصلة. الرواية هنا، هي هذه الفانتازيا، وغسّان هو هذا السُّماع الموصول لكلّ شيء ولكلّ موجود.

لكنّ الرواية ليست ذلك فقط. غسّان يُصغي للأشياء، لكنّ غسّان ليس كلّ الرواية، ليس وحده فيها. الرواية هي أيضاً تاريخ، بقدر ما هي أرشيف للأصوات، إنها تاريخ منطقة وتاريخ بلد. والد غسّان هو، على قرب عهده بابنه، ذلك التراث الذي يكاد يكون أبعد من وقته. الأب دَرَكيّ، لكنّ هذا لا يكفي لتقديمه، إنه أب وزوج، بكل ما للاثنين من حضور في التراث وفي التقليد. الأب، كما هو الأب الموروث، سلطة طاغية مترفّعة، لكنّه أيضاً السيد، وهو هكذا، كزوج ووالد، يُرهب أولاده، برغم أنه يترفّع عن أن يُشهر سلطانه عليهم. لا يضربهم، لكنّه يخصّص الضرب لزوجته، التي يتفنّن في معاقبتها. الوالد هو هكذا تاريخٌ كامل، إنه ماضٍ، وإنْ يكنْ ليس بعيداً. إنه نهاية فترة وآخرُ مرحلة.

هناك أيضاً الأبناء، الذين، في اجتماعهم، يكوّنون صورة مجتمع كامل. في العائلة الموسيقي، وهناك أيضاً المصوّر، لكن إلى جانبهما هناك المتشدّد دينياً، وهناك الكاريكاتور ــ الأب، وهناك أيضاً المِثليّ. الأسرة هكذا مجتمع، ومصائر أفرادها ونهاياتهم هي آفاق مجتمع وتنويعاته. هناك الفنّان، وهناك التقليدي والمتعصّب، وهناك اللاأحد سوى استمرارية الآخرين، ثم هناك المُقيم والمهاجر. يمكننا هكذا أن نعيش أكثر من عصر في زمن واحد.

صحيحٌ أن الأب شغوف بالموسيقى، شأنه في ذلك شأن ابنه الموسيقي، لكنّنا مع ذلك لا نتلمّس قربى بين الاثنين. يظلّ الأب بعيداً جدّاً عن ابنه، وكأنه لم يضمّهما ذاتُ الزمن وذات المكان. إننا نشهد مع الأب نهاية عصر، لكنّنا لا نشهد مع الابن عصراً جديداً. غسّان الوَلوع بالموسيقى يتابع شغفه، لكنّنا لا نعرف إلى أين أدّى به ذلك. لا نعرف ماذا فعل بموسيقاه، وماذا أنجز فيها. يساورنا الإحساس بأن هذا الشغف يتحوّل مع الزمن إلى عبء. لا نفهم لماذا هجر غسّان الموسيقى التي ورثها، وماذا فعل بالموسيقى التي تعلّمها من الغرب، وكيف كانت عودته إلى موسيقاه الأولى، إلى العود. لا نفهم ذلك، لكنّنا نرى فنّاناً آخرَ، هو أخوه طارق، يرزح تحت ثقل الفن الذي اختاره ويتنصّل منه.

هل كان هذا الشغف الذي ملأ حياة الاثنين ــ شغف الإيقاع وشغف الصورة ــ أثقل من أن يحتملاه؟ هل كان هذا الشغف نوعاً من الغربة، نوعاً من الخروج من الطبيعة الخاصة، ومن الذات؟ هل كان هذا الشغف صِلةً بأميركا وانتماء لبلد وثقافة آخرين؟ هل كان أيضاً، في حال الأخ طارق، صِلةً بفرنسا وانتماءً إلى شيء آخر وبلدٍ ثانٍ؟ هل تطرح هذه النهايات مشكلة الهوية وأزمتها؟ هل كانت النهايات المؤلمة، في حقيقة الأمر، أزمة هذا الانتقال، أزمة الشغف الغريب الذي يردّنا غرباء بلا هوية؟ هل سقطت الطائرة بغسّان لأنها لم تحتمل شغفه، لأنها كانت، على نحو ما، غربته؟

شاعر وروائي من لبنان








كاريكاتير

إستطلاعات الرأي