
واشنطن: بحلول أواخر آب/أغسطس الماضي تراجع اهتمام الغرب بالحرب الروسية في أوكرانيا. وبدا أن الجانبين الروسي والأوكراني يتعثران في طريق طويل مسدود، مع تحرر القادة الغربيين من الحاجة لاتخاذ قرارات صعبة أو التفكير الصعب للغاية في مستقبل هذا الصراع الدامي الدائر على أعتاب أوروبا.
ومنذ أوائل أيلول/سبتمبر المقبل حقق الأوكرانيون مكاسب كبيرة، أعقبتها تعبئة روسية وضم أقاليم أوكرانية إلى روسياـ وشن هجمات صاروخية على مناطق مدنية والتهديد باستخدام أسلحة نووية، وهو ما حطم الوهم في إمكانية هزيمة روسيا عسكريا، ودفع الحرب إلى مرحلة جديدة أشد خطورة.
وترى المحللة الاستراتيجية الأمريكية إيما أشفورد الباحثة في مركز سكوكروفت للاستراتيجية والأمن أن إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن تبنت منذ بداية الحرب منهجا سياسيا واقعيا ومتوازنا، حيث تقوم بتسليح وتمويل أوكرانيا، مع استمرار التأكيد على أن الولايات المتحدة لن تنخرط بشكل مباشر في الصراع. في الوقت نفسه تتجنب الإدارة الأمريكية الحديث عن أحد أهم عناصر استراتيجية الحرب على الإطلاق وهو كيف يمكن إنهاؤها. وتتم معاملة الخبراء وصناع السياسة الأمريكيين الذين يرون ضرورة دعم الولايات المتحدة للجهود الدبلوماسية الرامية إلى إنهاء الحرب عبر المفاوضات كحمقى أو خونة. ليس هذا فحسب بل إن البعض يرى أن دفع أوكرانيا للقبول بتسوية للحرب موقف غير أخلاقي.
وتقول أشفورد في تحليل نشرته مجلة فورين أفيرز الأمريكية إن كل الحروب تقريبا انتهت بالمفاوضات. في الوقت نفسه فإن التصعيد العسكري الروسي خلال الخريف الحالي يطلق شبحين، الأول يتعلق باحتمال نشوب حرب أوسع نطاقا بين روسيا وحلف شمال الأطلسي "ناتو" والثاني باحتمال استخدام الأسلحة النووية. كما أن التكلفة الاقتصادية التي يتكبدها العالم نتيجة لهذا الصراع ضخمة بالفعل، ومن المؤكد ارتفاعها خلال الشتاء المقبل. وحتى إذا كان إنهاء الحرب بالمفاوضات يبدو في اللحظة الراهنة مستحيلا، فعلى إدارة بايدن البدء في طرح الأسئلة الصعبة سواء بشكل معلن أو مع شركائها، التي قد يستتبعها السير في طريق المفاوضات. وعليها الإجابة على السؤال المتعلق بالتوقيت المناسب للدفع في اتجاه المفاوضات، والسؤال المتعلق بالنقطة التي تصبح فيها تكلفة استمرار الصراع أعلى من فوائده.
ولكي يتم الوصول إلى تسوية دائمة، على الإدارة معرفة كيفية استثمار نجاحات أوكرانيا دون أن تجهز المسرح لمزيد من الصراع. وللاستعداد للوصول إلى افضل اتفاق على صناع السياسة الأمريكيين المحافظة على الجبهة الموحدة بين الغرب وأوكرانيا، مع مراعاة السياسات الداخلية الروسية والأوكرانية، والتحلي بالمرونة والنزعة الواقعية في تحديد أي عقوبات يمكن رفعها عن روسيا دون أن يؤدي ذلك إلى تعزيز قوة نظام الرئيس فلاديمير بوتين. وإذا لم تستعد الإدارة الأمريكية لهذا الأمر فورا، فقد تجد أن الأوهام الخطيرة للنصر المطلق تسيطر على منهجها الحذر في التعامل مع الحرب.
وبعد مرور 8 أشهر من بدء الغزو الروسي لأوكرانيا، سمح الدعم الأمريكي لأوكرانيا باستعادة مناطق واسعة من الأراضي التي احتلتها روسيا، وتكبيد القوات الروسية خسائر باهظة، في حين أبقى على مخاطر اتساع نطاق الصراع منخفضة نسبيا. وتتجنب الإدارة الامريكية الحديث عن التطورات المنتظرة للصراع، وتقول إن الأمر متروك للأوكرانيين لكي يقرروا ما يرونه في صالحهم. لكن المحافظة على هذا الموقف أصبحت أكثر صعوبة في ظل تصعيد الرئيس الروسي للحرب وتلويحه باستخدام الأسلحة النووية ضد الغرب. واختار بوتين القيام بمخاطر جديدة كبيرة بدلا من التراجع، مشيرا إلى أن هذه الحرب لن تنتهي من خلال استسلام روسي سهل. ورغم أن هذه المخاطر مازالت خاضعة للسيطرة، فقد يأتي وقت تصبح فيه المفاوضات حتمية لتجنب كارثة هائلة.
في الوقت نفسه فإن العواقب الاقتصادية للحرب تتزايد بسرعة. في أوكرانيا أصبحت المالية العامة على حافة الانهيار، ونفدت السيولة النقدية لدى الدولة. وكما قال المؤرخ الاقتصادي أدم توز في أيلول/سبتمبر الماضي "إذا لم يكثف حلفاء أوكرانيا مساعداتهم المالية، فإنه سيكون من الطبيعي جدا نشوب أزمة سياسية واجتماعية على الجبهة الداخلية" الأوكرانية.
في الوقت نفسه تجد أوروبا نفسها غارقة في أزمتها نتيجة ارتفاع أسعار الطاقة إلى مستويات قياسية مما أدى إلى ارتفاع معدل التضخم وتزايد احتمالات حدوث ركود اقتصادي حاد. كل هذا يجعل من الصعب الدفاع عن موقف الإدارة الأمريكية القائل إن "كييف وحدها هي التي ستقرر متى تنتهي الحرب".
والحقيقة فالسؤال ليس هل المفاوضات ضرورية لإنهاء الحرب، وإنما متى وكيف يجب أن تبدأ هذه المفاوضات. وعلى صناع السياسة التعامل مع معضلة "كاتش 22" التي تشير إلى تناقض الشروط في موقف معين، بحسب الروائي الأمريكي جوزيف هيلر في الرواية التي حملت نفس العنوان وصدرت عام 1961.
هذه المعضلة تقول إنه كلما تحسن أداء القوات الأوكرانية في أرض المعركة زادت صعوبة إقناع أوكرانيا بالجلوس على مائدة التفاوض، رغم أنه من الأفضل بالنسبة لها أن تدخل المفاوضات وهي في وضع عسكري جيد.
ومع تزايد مخاطر التصعيد الروسي، تتزايد احتمالات اتهام أي قائد غربي يتحدث عن إنهاء الحرب باعتباره غير واقعي أو غير أخلاقي أو يرضخ "للابتزاز النووي". لكن المناقشات الداخلية حول شروط التسوية المقبولة الآن ستكون موقفا أفضل لكل الأطراف عندما تلوح فرصة الوصول إلى أي اتفاق سلام.