
ابراهيم درويش - كثيرة هي الكتب التي كتبت عن الحروب الصليبية في القرن الحادي عشر وما بعده من الجانبين العربي- الاسلامي والغربي. وفي السنوات الاخيرة صدرت كتب باللغات الاجنبية تحاول قراءة الحرب بعيون عربية كما في كتاب امين معلوف 'الحروب الصليبية في كتابات المؤرخين المسلمين'، وهو الكتاب الذائع الصيت باللغة الفرنسية، اضافة إلى أفلام وثائقية وملحمية كان آخرها فيلم 'بوابة السماء'- ريدلي سكوت.
وكلمة صليبية او 'كروسيد' باللغة الانكليزية وان تمظهرت عن معان ٍ جديدة 'الدفاع عن قضية عادلة'، غير معنى الحملات الصليبية التي استجاب فيها محاربون اوروبيون ـ فرنجة لدعوات البابا اربان الثاني عام 1095 من اجل تخليص قبر السيد المسيح في القدس من ايدي المسلمين 'الكفرة'، ولكنها في الاعوام الاخيرة وفي سنوات حروب بوش على الارهاب تلبست بلبوس وسيطي خاصة ان بوش نفسه استخدمها في هذا السياق. وتظل كلمة 'صليبية' مثيرة للحساسية حالة استخدامها في اطار العلاقة بين عالمي الغرب والاسلام. ومن هنا تظل اية اضافة لمعرفتنا في جذور واصول الحرب والممالك اللاتينية واثر الصراع على العلاقة بين العالمين مرحب بها. وضمن هذا السياق يمكن التعامل مع الكتاب الصادر حديثا تحت عنوان 'الصليبيون: الحرب من اجل الارض المقدسة' وهو كتاب ضخم يقدم على انه الدراسة المرجعية المهمة في تاريخ الحملات الصليبية ونشوء الممالك اللاتينية في الارض المقدسة ومن تأليف توماس اسبريدج المحاضر في جامعة 'كوين ميري' في لندن، والكاتب متخصص في هذه الفترة والـّف قبل هذا كتابا عن الحملة الصليبية الاولى.
القراءة الدائمة
ظلت الحروب الصليبية ولقرون طويلة محط عدد من القراءات والروايات العديدة فهي وان نظر اليها في اوروبا الوسيطية وعصور الظلام نظرة بطولية، وظلت القصة تتمحور حول قصة بطولية لمجموعة من فرسان اوروبا الذين جندهم بابا متحمس دينيا لاغراض خاصة او عامة قدرت على تحدي كل الصعاب ووصلت الى الارض المقدسة وخلصت القدس من ايدي المسلمين، فقد اعيدت قراءتها من زاوية نقدية في المرحلة الرومانطيقية الاوروبية ونظر اليها على انها فعل همجي وصفحة سوداء في تاريخ اوروبا، بل بدأت المراجعات حول قصة الصليبيين في الوعي التاريخي الاوروبي في مرحلة التنوير او بداياتها، وبدا هذا واضحا في تقييم اداورد غيبون صاحب الكتاب المهم عن الامبراطورية الرومانية فقد كتب عن الحرب الدينية على انها تعبير عن فعل 'همجي متطرف' ولد من مبادئ الدين. والمهم في قصة الحروب الصليبية ليس في تفاصيلها ولا قصصها البطولية عن صلاح الدين الايوبي الذي احله دانتي في كوميدياه الالهية في مستوى محترم على الاقل يعترف به كهمجي نبيل ولا في روايات ولترسكوت،' الطلسم' ( 1825) او ايفانهو. وأهمية العودة الدائمة الى قصة الحروب الصليبية تنبع من محاولة تدويرها وقراءتها بشكل مواز للحاضر، فهي في القرن التاسع عشر قرئت من داخل الرواية الاستعمارية، حيث تمت المقارنة بين دخول غورو دمشق ووقوفه على قبر صلاح الدين وصراخه، هكذا انتهت الحروب الصليبية، ووصول الفرسان الصليبيين للارض المقدسة، بل ان المؤرخ الفرنسي فرانسو ميشو نشر ثلاث مجلدات عن الحروب الصليبية وقدمها عبر رؤية بطولية وعلى انها كانت تهدف الى 'غزو وتحضير آسيا' وهي قراءة لا تخرج عن الرؤية الاستعمارية في القرن التاسع عشر. كما دخل الجنرال اللنبي القدس ماشيا ، وعلى الرغم من منعه جنوده او المسؤولين من المقارنة بين الحروب الصلييبية ونهاية الدولة العثمانية الا ان هذا لم يمنع الصحافة في لندن من تدوير القصة واعادتها عبر الرسوم والصور. وهذه القراءة تتناقض مع الحس الرومانسي قبل فترة عام 1898 عندما جاء مثل القيصر الالماني ويلهام الى الارض المقدسة وقام بزيارة القدس وعرج على قبر صلاح الدين في دمشق.
عودة اسلامية مستمرة لصلاح الدين
هذه القراءات والاستعادات لتاريخ حروب جرت قبل 900 عام وتداخل فيها الحس الرومانسي والتبرير الاستعماري للاستغلال والقتل تؤثر على القراءة الواعية للظروف التي دعت اليها وادت إلى مجيء مجموعات من الفرسان والمقاتلين الراجلين الى العالم الاسلامي واحتلوا القدس والموانئ الفلسطينية واللبنانية والسورية لقرنين تقريبا، قبل ان يخرجهم نهائيا المماليك، الظاهر بيبرس والاشرف خليل قلاوون. ففترة الحملات الصليبية 1095 ـ 1290 تقريبا ظلت تعود وتلقي بظلها على الحاضر ليس في الجانب الاوروبي ولكن في الجانب الاسلامي. وفي الجانب الاخير فقراءة اسبيردج لها يرى انها تلونت مثل القراءة الاوروبية بالحس القومي وبالعامل الديني، فقد تمت استعادة صورة ابطال الجهاد من الزنكيين، خاصة نور الدين زنكي، والايوبيين ، صلاح الدين الايوبي باعتبارهم من قاموا بإحياء سنة الجهاد وقاموا بجهود لتوحيد المسلمين، خاصة سورية ومصر كي يتم القضاء على الصليبيين ومع ان اسبريدج يرى ان استخدام مفهوم 'الحروب الصليبية' لوصف تلك الحملات حديث ويعود الى تلك الترجمات التي قام بها المسيحيون السوريون وهو اسم غير الاسم الذي استخدمه مؤرخو تلك المرحلة او ما بعدها وهي حروب الفرنجة.
من نامق كمال الى صدام حسين
ومثل ما حدث في اوروبا من محاولات اعادة تأهيل وتفسير الحملات هذه بطريقة او بأخرى حسب الجو التاريخي والمرحلة فقد تعرضت لنفس اعادة القراءة، عند المسلمين، فالكاتب العثماني، نامق كمال كتب عام 1872 اول سيرة ذاتية 'حديثة' للقائد صلاح الدين الايوبي، وهي السيرة التي كتبت على ما يبدو للرد على النعرة البطولية التي برزت في كتاب ميشو الفرنسي. ويعتقد اسبريدج ان زيارة القيصر ويلهام الالماني عام 1898 ربما ادت الى اثارة الاهتمام بالحروب الصليبية، ففي نفس الفترة كتب سيد علي الحريري 'الاخبار السنية في الحروب الصليبية' وفي هذا الكتاب اشار الحريري الى ان السلطان العثماني عبدالحميد نظر الى الاحتلال الاجنبي للاراضي الاسلامية على انه 'حملات صليبية'، فيما اكد الحريري ان رؤية السلطان صحيحة لانه رأى ان القوى الاوروبية 'تقوم الان بحملات صليبية ولكن عبر الحملات السياسية'، فيما لم ينس احمد شوقي، الشاعر الكبير مساءلة صلاح الدين، حتى جاء القيصر الالماني واعاد تذكيرنا به. يحاول اسبريدج ضمن هذا الاطار تتبع تطور التعامل الاسلامي المعاصر مع شخصية صلاح الدين والحروب الصليبية في اطار ما تعرض له العالم الاسلامي، انهيار الدولة العثمانية، وصعود القومية العربية، وصعود الصهيونية، فالكاتب هنا يذكر قارئه بما كتبه الكاتب المصري، عبداللطيف حمزة، معلقا على النكبة حيث كتب قائلا 'ان الصراع ضد الصهيونية أيقظ في قلوبنا ذكريات الحروب الصليبية'. ومنذ النكبة وضياع فلسطين يقول الكاتب ان العرب والمسلمين انشغلوا بإعادة قراءة وفحص الحروب الصليبية وبناء مقارنة بينها وبين التوسع الصهيوني، والقراءة تشمل جماعات وافراداً وتتراوح من جماعات قومية الى جماعات 'متطرفة' فالحروب الصليبية حاضرة في خطاب حافظ الاسد 'صلاح الدين القرن العشرين' وجمال عبد الناصر وصدام حسين 'صلاح الدين الثاني' وكل واحد منهم حاول بطريقته اعادة تأهيل صورة البطل المسلم عبر تماثيل ونصب تذكارية وافلام، يوسف شاهين 'الناصر صلاح الدين' ( 1963)الذي يقرأ معادلا لناصر في عز صعوده القومي.
المؤامرة وأيمن الظواهري
وصورة المؤامرة الصليبية حاضرة في كتابات الاسلاميين ولعل من اشهر الكتب التي انتشرت بين الاسلاميين كتاب صغير هو عبارة عن تجميع مقولات لقادة ومفكرين غربيين يحمل عنوان 'دمروا الاسلام أبيدوا أهله' ( لم يطلع عليه الكاتب على ما يبدو) لمحمد جلال العالم، هذا عدا عن الكتابات الاخرى ولكن مجمل الخطاب الاسلامي من سيد قطب حتى ايمن الظواهري والقاعدة واعلان الجبهة العالمية لمحاربة الصهيونية والصليبية - 1998 لم ينس ابدا المقارنة بين حالة المسلمين الحاضرة واحتلال اراضيهم وبين تلك الحروب التي جرت قبل تسعمئة عام او يزيد. وفي تحليل اسبريدج لملامح المقارنة يرى انها مدفوعة بالظروف التي يعيشها المسلمون اي حالة الضعف، انشاء اسرائيل، احتلال امريكا للعراق وافغانستان. وهناك دافع آخر وهو محاولة التعلم والاستفادة من دروس الماضي للخروج من ازمة الحاضر، وهناك تراث واسع في هذا المجال لا يقتصر على الحملات نفسها بل على مجمل الفاعلين بها، فالكاتب هنا يذكر دراسة سعيد عاشور 'تاريخ الحملات الصليبية' ولكن هناك كتابات لعماد الدين خليل واعادة قراءة لتجربة نور الدين الجهادية وغير ذلك.
دعوة لنسيان الماضي
ومع اعتراف الكاتب بأهمية ما جرى وان محاولة اجراء موازاة بين عصر الحروب الصليبية والعصور الحديثة والتي بدأت مع الرومانسية الغربية والنزعة الانتصارية في الغرب ومع ثقافة الهزيمة والهوان والعدوان في العالم الاسلامي وان هذه المقارنة والاستعادة ادت الى تشكيل العالم وصورته عن الانا والاخر، لكن في الكتاب دعوة الى وضع الحملات الصليبية في اطارها الزمني ومكانها الصحيح، الماضي. لكن هذه الدعوة من الصعب تحقيقها طالما ظل هناك هوان واستعمار وعدوان فالتاريخ يظل للامم المشجب الذي تعلق عليه احزانها وانتصاراتها وتعود اليه، ولهذا نفهم وجود تمثال غودفري احد فرسان الحروب الصليبية في قلب السلطة في بروكسل، وريتشارد قلب الاسد في قلب صناعة القرار في البرلمان ونفهم لماذا يعاد بتذكير السياح الزائرين دائما لفيينا بالمكان الذي انهزم فيه العثمانيون امام ابواب العاصمة النمساوية، ونفهم لماذا قطع مارك توين البحار، من امريكا لزيارة موقع معركة حطين التي ادت إلى انهيار المملكة اللاتينية في القدس، فالتاريخ يظل الذاكرة الجمعية ومن لا تاريخ له لا اصل له. من الصعب وضع التاريخ على الرف كما يدعو اسبريدج ومن الصعب التوقف عن الموازنة بين الماضي والحاضر.
فرسان عقائديون
وتظل قراءة الكاتب نفسها مدعاة للقراءة الجديدة فهي وان حاولت تقديم دراسة مرجعية عن زمن الحروب الصليبية والحملات المتكررة من الاولى للخامسة ودور البابوات من اربان الى اينسينات والملوك والامراء والمعارك الحاسمة، من هزيمة السلاجقة وسقوط انطاكية ومذبحة معرة النعمان وسقوط القدس وتراجعات الصليبيين ومعركة المنصورة واحتلال الاسكندرية وسقوط عكا واخيرا رحيل الفرسان الداوية والاسيبتالية لقبرص ورودس ومن ثم مالطة، فالقراءة هي محاولة تفسير في السياق وبناء رؤية وتظل في الكثير من ملامحها اشكالية، فهو يرى ان سقوط القدس بيد الفرنجة لم يؤد الى رد فعل مثير في العالم الاسلامي وان ايديولوجية الجهاد لم تجد لها اي ارضية الا في ستينيات القرن الثاني عشر، ففي عام 1105 لم يستجب احد الى دعوات الجهاد التي اطلقها الخطيب السلمي.
جهادية ام طموح للسلطة؟
وقراءته لحملات الاتابكة وزنكي ونور الدين يرى انها لم تكن مدفوعة بحس جهادي في البداية وان نور الدين الذي يظل المؤسس المهم لعملية الجهاد ضد الصليبيين لم يبدأ بالتحرك ويلبس معاركه لبوساً دينياً الا في ستينيات القرن الثاني عشر. وكذا في قراءته لجهود صلاح الدين الذي كان قائدا عسكريا طامعا في السلطة وانتهى اخيرا الى الجهاد. ويتبنى الكاتب القراءة التي ترى ان صلاح الدين بعد حطين واستعادة القدس لم يظهر اي اهتمام بمواصلة الجهاد وانه خسر الكثير مما حققه، ومن يرفض هذه القراءة يشير الى ان صلاح الدين قضى شطرا طويلا من حياته في الجهاد وواجه مصاعب في المراحل الاخيرة من جهاده لتوفير الدعم اللوجيستي لجيوشه بل وحتى الجنود. ويأخذ الكاتب على الكتاب المعاصرين مبالغتهم في التأكيد على البعد الجهادي عن الزنكيين والايوبيين. وتبدو في قراءة اسبريدج نزعة لنزع سمة 'التسامح' عن الايوبي وانه في طريقه للسلطة ارتكب مجازر وقتلا ً وحتى في صراعه مع الصليبيين لم يتوان عن استخدام سياسة الترهيب كما فعل نور الدين زنكي من قبله. ويقدم الكاتب صورة عما يراه عدم إجماع حتى في الرواية التاريخية الاسلامية عن صلاح الدين، فمن جهة يقدم ابن الاثير الذي يقول عنه الكاتب انه مؤيد للزنكيين صورة مختلفة عن تلك التي قدمها كل من كاتب سيرة السلطان بهاء الدين بن شداد والعماد الاصفهاني. مع ان قراءة لابن جبير ورحلته التي قام فيها في تلك الفترة تظهر ان 'عدل' السلطان كان محل السمع والبصر. لكن في ظلال تحليل اسبريدج هناك تساؤل يطرحه هل كان جهاد صلاح الدين من اجل الدين ام من اجل المجد؟
اوروبا المتدينة
لا جدال في ان سرد الكاتب فيه حس درامي وقدرة على التحول من رواية الى اخرى ، والابتعاد عن التكرار الا الفكرة نفسها، ولا جدال في اطلاع الكاتب على مجمل تراث الحملات الصليبية العربي منه والانكليزي وكتابات المعاصرين لها من مثل ويليام الصوري. ومع ذلك يشعر القارئ للكتاب ان اخلاقية الصليبيين الغزاة هي اقوى من اخلاقية الضحايا والقارئ يشعر بحس التفوق الاخلاقي وان الصليبيين على الرغم من صورتهم وحمامات الدم التي ارتبطت بهم كانت لهم اخلاقية عالية، فنحن هنا امام فرسان مندفعون من اجل الدين والخلاص، ونتاجا لسياسة من البابا للتأكيد على ان الخلاص من الاثام لم يعد تكفيه الصدقات ولا الصلوات بل الجهاد من اجل الصليب.
فنون وآداب وتعايش
ونحن هنا امام ممالك تعايشت بسلام مع جوارها وهي إن لم تعبّر عن نوع من التعددية الثقافية الا انها كانت منفتحة على الجوار من ناحية التجارة والمعاملة الحسنة لمن يعيشون فيها. ويشير الى دليل الحج الذي قدمه الزائر الهروي وتعليقات من ابن جبير عن معاملة الاسياد الصليبيين لعمالهم المسلمين الذين قال انهم يلقون معاملة احسن من معاملة اخوانهم المُلاّك المسلمين. ويتحدث عن فن صليبي وادب وثقافة تعبر عن التلاقح بين الثقافة الغربية والشرقية. كما يشير الى صداقات وعلاقات حميمة وتقدم في الطب على خلاف ما قدمه اسامة بن منقذ في سيرته 'الاعتبار' والكاتب واع بالسيرة التي ترجمت للانكليزية تحت عنوان 'مذكرات امير عربي' بعناية من فيليب حتي، وواع بعلاقات ابن منقذ مع الفرسان الذين كانوا يفسحون له مكانا في الاقصى الذي حول الى اسطبل كي يصلي فيه. وتظل الفنون والاداب ومعهما التعايش الظاهري بسبب الضرورة ونتيجة غير مباشرة للتواصل ولا تعبر عن سياسة مقصودة فالكاتب يعترف بان التعصب والحرب والخوف على مصير الممالك كان طابع العلاقات دائما لكنّ ما حَكـَمها هو التجارة التي لم تتوقف. ويعتقد ان مشكلة الممالك الصليبية ظلت تتركز حول انقطاعها الكامل عن المحيط، فهي جزر في محيط معاد لا تعيش من دون الدعم والطرق الامنة من الخارج. في مكان آخر يؤكد الكاتب ان الاثر الصليبي اي التلاقح لم يكن العامل المهم في ولادة عصر التنوير. ويعتقد ان هناك مبالغة في التأكيد على دور التواصل في التحولات الثقافية الاوروبية مؤكدا ان العامل الاندلسي الاسباني كان الاكثر في التنوير، اي انتقال الثقافة العربية الاسلامية من هناك الى اوروبا.
مذابح حتى الركب نعم، ولكن المشكلة في الارقام
وحتى لا نبتعد كثيرا فالكاتب في روايته لتفاصيل الحملة الصليبية الاولى يقدم لنا الصورة والصعاب التي قادت هؤلاء المحاربين الى الارض المقدسة، فالايمان والايمان وحده هو الذي صبرهم على الطريق، وعندما وصلوا القدس واصبحت في يدهم بعد سقوط دفاعات الفاطميين الذين كانوا يسيطرون على القدس اعملوا السيف في كل السكان حتى اخوانهم المسيحيين الشرقيين، لكن في رواية 'الدم حتى الركب' وعدد القتلى يرى الكاتب ان العدد المذكور في الروايات الاسلامية حول ذبح 70 الف مبالغ فيه ويرى ان العدد قد لا يزيد عن 3 الاف قتيل في احتلال القدس. وهنا يشير الى ان معظم الفرسان الذين جاؤوا للخلاص وتخليص قبر السيد المسيح من ايدي المسلمين 'الكفرة' عاد معظمهم الى بلاده بعد ان حصل الطهور ومعظمهم عاد من دون مال او متاع كالمشرد.
تحولات الكنيسة
يقرأ اسبريدج الحملات الصليبية في ظل تحولات داخل الكنيسة والمجتمع الأوروبي نفسه والذي يراه مجتمعا كانت تحكمه التقاليد الدينية وهو وان لم يفصح عن نوايا البابا اربان ومن بعده حول دوافع الحروب وانها لم تكن مفصولة عن محاولات البابوية تأكيد سلطتها، وفي مراحل لاحقة حاولت البابوية ادارتها بشكل مركزي، اي الحملات الصليبية. والاهم من ذلك فالحروب هذه لم تكن مبررة ولم يحدث من الجانب المسلم ما يدعو لها، هناك العامل البيزنطي والمخاوف التي بدت في القسطنطينية من تقدم السلاجقة وسيطرتهم على مناطق قريبة من الامبراطورية ولكن لم يكن هذا ليستدعي حربا في الارض المقدسة، يضاف الى ذلك فطوال القرون التي حكم فيها المسلمون القدس لم يتعرض الحجيج المسيحي لأية مشاكل وهو هنا يشير الى رحلة التوبة التي قام بها امير حرب فرنسي اسمه فولك نيرا من اجل التطهر من ذنوبه، وفي واحدة من رحلاته الثلاث مشى عاريا الى كنيسة القيامة. ويرى الكاتب ان المذكرات التي كتبها نيرا تؤشر الى تحول في فكرة التطهر من الذنوب وفكرة الدين ودوره في الحياة الاوروبية مع بداية طلائع الحروب الصليبية التي تعبر في النهاية عن بنية الدين في المجتمع الاوروبي وتداخله مع السياسة وتشابكه لاحقاً في القرون القادمة مع لعبة المال والسيادة على الارض المقدسة، اضافة للتغيرات الاجتماعية وزيادة عدد السكان.
حروب غير مبررة ادت لهمجية من الطرفين
ولا يختلف الكاتب في النهاية من ان الحروب الصليبية كانت وتظل حربا عدوانية مسيحية ولم تكن حربا للدفاع عن النفس. ولا ينسى الكاتب ان يقارب هذه الحروب بحروب الفتح الاسلامي التي لم يكن لها داع سوى الغزو والتوسع. وفي حالة الحملات الصليبية فكل ما قيل عن التهديد الاسلامي لاوروبا والخطر على القدس لامبرر له فالقدس كانت تحت حكم المسلمين في القرون الاربعة التي سبقت الحروب الصليبية ولم يتحرك الغرب لانقاذها. ومع سقوط المبررات للغزو هذا يقول الكاتب ان الحديث عن تعرض الحجيج المسيحي للانتهاكات لا اصل له. ويظل نجاح الحملة الصليبية الاولى معجزة تبعتها اقامة ممالك صليبية ارتبطت ديمومتها بدوامة من العنف والانتقام والغزو واعادة الغزو ارتكب فيها المسيحيون والمسلمون على حد سواء اعمالا من القتل الهمجي. في النهاية يظل كتاب اسبريدج اضافة جديدة لمكتبة الحروب الصليبية وتاريخها،واهميته على ما نظن في محاولته قراءة الحملات في ظروفها الاوروبية وفهم علاقات القوة بين الملوك والامراء الاوروبيين والعامل الديني واثر العلاقات الدولية في هذه الحملات وعامل التجارة والمال. وتظل تفسيرات اسبريدج مثل اية قراءة للتاريخ محلا للنقد والقراءة المشروعة فهو ليس القول الفصل خاصة انه يحاول قراءة الحروب الماضية بعقلية المؤرخ المعاصر ابن القرن الحادي والعشرين، عصر حروب بوش والارهاب. وهو ان لم يقل هذا فالكاتب يظل ابن عصره وبيئته، وقراءته هي صورة عن هذا ولهذا فدعوته لنسيان الماضي قد لا تجد آذانا صاغية. وصف باراك اوباما الرئيس الامريكي حرب سلفه على العراق بانها حرب 'اختيار' وهكذا كانت حروب الماضي التي انطلقت من اجل تحرير قبر المسيح.
'
دناقد من اسرة 'القدس العربي'
The Crusades: The War for the Holy Land
By: Thomas Asbridge
Simon & Schuster
London / 2010