فيلم «ثمانية ونصف» لفدريكو فليني: الهروب إلى الحلم

2022-06-30

فيلم «ثمانية ونصف» لفدريكو فليني: الهروب إلى الحلم (تواصل اجتماعي)سليم البيك*

قد تكون أزمة الإلهام أصعب ما يمكن أن يواجه المبدع (السينمائي هنا) وهي الفكرة الأساسية في فيلم فدريكو فليني «ثمانية ونصف» وتُلفظ مباشرة على لسان شخصيته الرئيسية غويدو، المدرك لأزمته الذي يحاول، من المشهد الأول للفيلم وعلى طوله، التعامل معها بالهرب منها، بمحاولة تفاديها كأنه يلاعبها.
يبدأ الفيلم بمشهد سيريالي، يحاول غويدو العالق في سيارته الخروجَ منها، كل من حوله ينظر إليه، يراقبه، وهو يجهد كي يفلت، ويخرج أخيراً ليحلق فوق السيارات، ثم إلى السماء، كأنه يصعد إلى وحيه إلى أن يلتقطه أحدهم بحبل ويُسقطه، في واقعه، فيستيقظ من حلمه مريضاً. هذه بداية واضحة لأزمة الإلهام التي يعانيها غويدو ومحاولته الإفلات إلى خيالاته ليصور فيلمه المنتَظر.
الهرب والتفادي، كما في المشهد الافتتاحي، هو ما يحاوله غويدو على طول الفيلم، مُحاصَراً من قبل من يضطر للعمل معهم لإنجاز الفيلم: السيناريست والمنتج والممثلين وغيرهم. وهذا كله يشكل عائقاً وعامل ضغط على العملية الإبداعية لدى المخرج. وهذه العملية تكون، في الفيلم، في تصويره وليس كتابته، فالمخرج غير المقتنع بالسيناريو الذي لديه كما يبدو، ينتظر إلهاماً في كيف ومن أين يبدأ التصوير، وكل ما حوله يؤخره عن ذلك. من المنتج إلى الصحافة إلى النساء الراغبات بالتمثيل في فيلمه.
يُحاط غويدو بنساء يمضي معهن معظم وقته، وحضورهن أساسي في الفيلم: عشيقته التي ينام معها ويطلب منها أداءً وحشياً على السرير يعبر عن فانتازماته كرجل أولاً وكسينمائي ثانياً، وزوجته التي يتعلق بها وتُبعده عنها غيرتها، رغم محاولاته الحفاظ عليها، وممثلة جميلة ومعروفة، كلوديا، كانت في بداية الفيلم خيالاً لديه، تحضر في أحلام يقظته، إلى أن حضرت حقيقةً، إلى اختبارات الأداء راغبة في التمثيل بفيلمه. إضافة إلى أخريات هامشيات ودون تأثير سوى في التشويش وتكريس أزمة الإلهام.

النساء الثلاث تمثيلات لجوانب ثلاثة في حياته: الأولى حيث الشغف والثانية حيث المسؤولية والثالثة حيث الخيال، وكان لا بد له، كسينمائي، أن يجمع بين ثلاثتهن، كنساء وكتمثيلات، كي يصل إلى ما يسعى إليه طوال الفيلم: البدء بالتصوير.
فكرة الهرب أو الإفلات لا تتعلق بالنساء حسب، إذ يحاول الإفلات من التقاء شغفه بمسؤوليته (عشيقته بزوجته) هارباً منهما، ومن كل فريق العمل حين تحضر كلوديا، هارباً معها في سيارتها إلى مكان ناء، منعزل عن كل ما حوله، إلى ما بدا عالماً جديداً كأنه فيلمه المرغوب، إلى أن يسحبه المنتج إلى واقعه بإيجاده هناك طالباً منه العودة للعمل.


هنالك تمثيل آخر لفكرة الهرب، التي افتُتح بها الفيلم بمشهد سيريالي، وهي محاولات غويدو الدائمة للإفلات من واقعه إلى ذكريات طفولته وأحلام يقظته. فالأخيرة أتته كذلك في المشاهد الأولى، بعد حلمه بأنه يطير هارباً من أزمة السير، حين طلب كأس ماء من امرأة، ممتلئا بمياه مقدسة، تخيلها كلوديا، آتية من بعيد مبتسمة ولا تزيح عينيها عنه، ليجد نفسه في واقعه أخيراً، مع امرأة متواضعة الجمال متعَبة تمد الكأس كي يأخذه، مُحاطاً بالمنتج والكاتب وآخرين يضغطون عليه للبدء بالتصوير، يلحون، بذلك، على حلمه كي يتلاشى، كأن الفيلم حالة وسطى ما بين الحلم والواقع، ما بين الرغبة والمسؤولية.
غويدو الذي يتخيل نفسه هارباً من مؤتمر صحافي لينتحر برصاصة في رأسه، وهو جالس بجوار المنتج مضطراً للحديث عن فيلمه المرتقَب، يخرج أخيراً من أزمته، بحضور كلوديا، ويبدأ بتصوير مشهده الأول في الفيلم، وهو المشهد الأخير من فيلم فليني (غويدو هو الألتر-إيغو لفليني) بعدما تخطى، محمولاً بخياله المتمثل بكلوديا التي حضرت واقعاً، صعوبات كانت -إضافة إلى كل ما حوله – تدخل رجال الدين وضرورة أن ينال «بركتهم». قد يبدو الإلهام الذي يبحث عنه غويدو داخلياً، أو أن أزمة غيابه هي جوانية وحسب، وهذه من طبائع الإبداع، لكن الفيلم واضح في أن كل ما حوله كان عاملاً أساسياً في أزمة الإلهام، كل من موقعه، فريق العمل الذي لا يكون الفيلم عنده إلا صناعة وإنتاجا ومدة زمنية وتكلفة وغيره، والنساء اللاتي يسعين بكل الطرق للظهور في فيلمه. ما كان رد فعل غويدو سوى الهرب والتفادي والإفلات. الوحيدة التي سعى هو للحاق بها كانت كلوديا، وهي الخيال الذي يرغب به وقد تحققت أمامه، هي الفيلم الحلم.

«ثمانية ونصف» (8½) الذي نزل إلى الصالات عام 1963، نال أوسكار أفضل فيلم بلغة أجنبية، ويُعد من بين الأفضل في تاريخ السينما بمعزل عن الأوسكار، وتوفر أخيراً على منصة «موبي».

*كاتب فلسطيني سوري







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي