"أسئلة الفكر التونسي": معراج فكري من ذاكرة المكان والانسان

خدمة شبكة الأمة يرس الإخبارية
2010-05-22
غلاف كتاب

عبد المجيد دقنيش - متلبسا بالأسئلة المحرجة، ومهموما بالقضايا الفكرية الكبرى يمضي بنا هذا التائه في سماوات المعاني هادي دانيال الى معراج أبدي يمتح من ذاكرة المكان ووقع اللحظة ويدخل بنا فجاج لا تحدها حدود وليال لا يغطيها برقع الظلام،براقه في ذلك طفولته الطامحة الجامحة أبدا وأحلامه المجنحة التي تسكنه منذ صباه.

مرة أخرى تأخذنا أفكار الكاتب السوري هادي دانيال في اصدار جديد عن دار نقوش عربية موسوم ب"أسئلة الفكر التونسي" وتعود بنا خطاه الى لحظة عربية فارقة أطلق عليها الكاتب اسم "اللحظة العراقية" لنجد أنفسنا أمام جملة من المواقف والأراء التي تحاول أن تقبض على الحقيقة وتفكك وتحلل الراهن الثقافي التونسي والعربي في فترة معينة.

فتحضر عدة أسماء ابداعية فكرية تونسية من خلال حوارات أجراها الكاتب هادي دانيال معها على غرار المفكر الكبير هشام جعيط والكاتب والمثقف المنصف الشابي والفيلسوف سليم دولة والمفكر عبد الوهاب بوحديبة والكاتب والمثقف الحبيب الجنحاني والكاتب الصحفي رياض الصيداوي والمؤرخ والكاتب أبوالقاسم محمد كرو.

وكي نفهم هذه الافكار والأراء والمواقف التي تتحرك وفق بنية فنية وزمنية مخصوصة لابد من العودة الى ما جاء في مقدمة هذا الكتاب من تأطير ووضع الأمور في نصابها حيث يوضح الكاتب قائلا " فرضت "اللحظة العراقية" بدءا من دخول الجيش العراقي الكويت حراكا فكريا ساخنا على الساعة الثقافية في تونس لم أشهد له مثيلا في هذا المكان خلال اقامتي فيه التي بدأت سنة 1982 ولا تزال مستمرة.

وقد اثبت مقالا لي تصدر هذا الكتاب تأكيدا مني على تاثري المؤكد بهذا الحراك الذي كانت تدفئه نيران الحرائق في العراق وما جاوره.ولئن جرت مياه كثيرة في نهر الفكر التونسي تحت هذا الجسر الذي أسميه "اللحظة العراقية" فاننا بتثبيت الموجات الساخنة بين دفتي هذا الكتاب لا نتقصد بالتاكيد تحريك جمار تحت الرماد.

بل أردنا توثيق مرحلة من الفكر التونسي نزعم أنها ستترك ظلالا على المراحل اللاحقة مهما سعى البعض الى اقصاء هذا الاحتمال حجتنا في ذلك تمسك بعض المفكرين ممن حاورناهم بالأفكار التي أوحت له بها تلك اللحظة التي كانت مناسبة لحسم هوية الفكر التونسي في أفق عربي ديمقراطي تقدمي حتى عند أؤلئك الذين جاؤوا من مرجعية ليبرالية، مع ملاحظتنا أن النكوص عند ذوي المرجعية القومية كان مؤقتا ووليد لحظة وهن عابرة.

لقد اتصفت اللحظة العراقية بمواصفات ملحمية تراجيدية وشهدت نهاية كارثية،لكنها في مسارها أسقطت اوهاما وأقنعة كثيرة وأضاءت زوايا كانت معتمة أو رمادية في وعي مفكرينا،وهذا يعني أنها فجرت في الفكر التونسي أسئلة لم تكن متاحة قبل هذه اللحظة الكاوية،وستبقى هذه الأسئلة حاضرة ولو بضجيج اقل الى أن تجد أجوبة شافية لهذه التشققات الدامية في المنظومة الفكرية التي كانت سائدة ليس فقط عند الماركسيين والليبراليين،بل عند القوميين أيضا الذين وجدوا أنفسهم مطالبين بمراجعة ما كانوا يحسبونها مسلمات وبديهيات على ضوء التجربة العراقية وتداعياتها التي لم تتوقف بعد.

وهذا الكتاب بمادته الميدانية-ان صح التعبير- لا يدعي أنه أحاط بأسئلة الفكر التونسي كافة،لكنه يصدر عن ثقة بأنه سيسهم في تنشيط الأسئلة وتناسلها عند أجيال صارت"اللحظة العراقية" بعيدة عنها نسبيا رغم كمونها في تفاصيل واقعها ومعاناتها،خاصة وأن المفكرين الذين نعرض أفكارهم ومواقفهم مازالوا أحياء يواصلون عطاءهم بين ظهراني هذا الجيل وان بمستويات مختلفة.

ان سليم دولة الفيلسوف والشاعر المبدئي وهشام جعيط المؤرخ العميق وعبد الوهاب بوحديبة عالم الاجتماع المشع والمنصف الشابي المؤرخ النهضوي والشاعر بلغة بودلير والحبيب الجنحاني الليبرالي البراغماتي وأبو القاسم محمد كرو القومي والمؤرخ الأدبي يضخون من خلال هذا الكتاب أفكارا متنوعة لكنها في مجملها تفتح أفاقا أمام القارئ المعني براهن الفكر التونسي وتوجهاته المستقبلية وبمدى حرص هذا الفكر ذي الطروحات بالغة الشفافية والوضوح على بلورة هوية تونس وتخصيب ثقافتها العربيتين في مواجهة العولمة الصهيو- أمريكية.وحسب كتابنا أن يلامس تخوم هذا الهدف من اصداره الان وهنا."

ورغم أن هذا الكتاب يدعي أنه يؤرخ للحظة بعينها وسمها الكاتب هادي دانيال ب"اللحظة العراقية" الا أننا نكتشف التطابق الغريب بين تلك اللحظة واللحظة الراهنة التي تعتقت فيها تلك الأفكار أكثر وازدادت الأسئلة احراجا بدءا بتفاعل النخبة المثقفة ومناصرتها لقضايا الأمة والتي شهدت تراجعا مهولا منذ تلك اللحظة وحتى اللحظة الراهنة.

ومرورا بالازمة الاقتصادية التي انطلقت من تلك الفترة وتعمقت كثيرا اليوم لتشمل العالم بأسره،ووصولا الى التحديات التي تتعرض لها الأمة العربية اليوم وفي مقدمتها التحديات التي تطرح على اللغة العربية بوصفها حاملا للهوية ومعبرا عن الوعي الفكري.وكذلك تجذر مسألة الوعي القومي بتداعيات اللحظة الراهنة ومهمة المثقفين والمفكرين في الدفاع عن مكتسبات المشاريع التحديثية العربية ومواجهة المد الرجعي السلفي والتيارات الظلامية من خلال تجديد الفكر القومي.

وهو ما حاول الكاتب التأكيد عليه عبر السؤال الذي توجه به الى المفكر الحبيب الجنحاني حيث نقرأ " تتداول الأوساط الثقافية العربية هذه الأيام مصطلح "تجديد الفكر القومي" ،هل تعتقدون أن ثمة ما يستدعي هذا التجديد،أم أن الأمر لا يعدو كونه "موضة"؟ وعلى من تقع مسؤولية القيام بمهمة التجديد؟"

اذا نظرنا في كل ما كتبه بعض المفكرين العرب في السنوات الأخيرة،وبعد أن وصل الوضع العربي الى التشتت والتردي في مجالات مختلفة،والى عدم التنسيق بشأن القضايا المصيرية التي كانت توحد بين النخب السياسية والفكرية كونها قضايا محورية،فاننا نلاحظ بروز دعوات صادرة عن مجموعة من المفكرين مازالت متفائلة بمستقبل الأمة العربية.

ولم يطغ عليها الاحباط الذي سيطر مع الأسف في الأعوام الاخيرة على شرائح واسعة وفئات اجتماعية مختلفة في الوطن العربي فاننا نلاحظ بروز تيارين أساسين:
تيار يقول انه يمكن احياء النظام العربي القديم بعد اصلاحه ولكن: ما طبيعة هذا الاصلاح وما هي شروطه الدنيا فكلام هؤلاء يبقى ضبابيا وعاما.

وتيار ثان ينادي بانشاء نظام اقليمي عربي جديد يختلف عن القديم تماما.
ولكن لابد من تنزيل الدعوتين في ظروفهما القطرية والاقليمية والدولية المسيطرة اليوم والتي نجحت في النهاية بالتبشير ببديل عن النظام العربي سواء القائم اليوم أو ما يمكن أن يكون جديدا غدا.وهذا البديل يتجاوز حدود الوطن العربي ويسمى "النظام الشرق أوسطي".

ولا شك أن الهدف من هذا النظام الذي أصبح يبشر به حتى بعض العرب هو سد الطريق أمام كل محاولة جدية تهدف الى الخروج من الوضع العربي المتأزم وفتح افاق عربية مستقبلية وهو أيضا واضح كما شرحه رئيس الوزراء الاسرائيلي السابق شيمون بيريز في كتابه عن النظام الشرق أوسطي،بأن تكون اسرائيل هي المتزعمة سياسيا واقتصاديا وتكنولوجيا لهذا النظام الجديد."

ويتجدد السؤال"هل يمكن اليوم التفكير في احياء الفكر القومي وتجديده؟ وبالتالي التمييز بين ثوابت هذا الفكر وبين متغيراته؟ لأن كل فكر قومي لابد له من ثوابت والا فانه ينهار من الأساس وأعني بالثوابت في الفكر القومي العربي:التاريخ المشترك واللغة والحضارة ونضال شعوب هذه المنطقة من اجل الحرية وضد الاستبداد منذ قرنين من الزمن تقريبا.

أما المتغيرات فهي طبيعية ومعروفة تتأثر بالمراحل التاريخية والوضع الاقليمي الدولي وغيرها من المعطيات الأخرى.وألح هنا على أن الحديث بأن الفكر القومي العربي هو في نظري حديث عن فكر تقدمي متحرر يخدم أساسا مصلحة الشعوب العربية ويناهض كل أنواع السيطرة والهيمنة في الداخل والخارج،عن فكر قاوم منذ الحملة الفرنسية على مصر الى اليوم جميع أشكال الأستبداد داخل الوطن العربي وقدم قوافل الشهداء فوق درب هذا النضال.

قد يقول قائل:لماذا هذا التعريف الموجز؟ وأقول هنا بوضوح: حتى لا يقع الخلط بين جوهر الفكر الذي بشر عدد كبير من رواد حركة اليقظة العربية من رفاعة الطهطاوي والأفغاني والكواكبي مرورا بمرحلة الفكر الليبرالي بين الحربين الى المثقفين والشباب الجامعي الذين خاضوا معارك كثيرة من أجل الحرية في الاعوام الأخيرة حتى لا يقع الخلط بين جوهر هذا الفكر وبين الممارسات التعسفية الاستبدادية التي صدرت عن بعض النظم العربية التي ترفع أيضا شعار القومية العربية فهذه الممارسات هي بعيدة كل البعد عن جوهر الفكر القومي التحرري الذي ألمحت اليه قبل قليل."

وفي النهاية لا مندوحة من التأكيد على أن "أسئلة الفكر التونسي" هي أسئلة الفكر العربي بكل تعرجاته وتفاصيله ونجاحاته واخفقاته،لأن كل قطر عربي مرتبط بعلاقات ثقافية وسياسية واقتصادية وتاريخية وثيقة مع بقية الأقطار وفي النهاية كل الأقطار تجمعهم وحدة الهوية واللغة والدين والمصير.

 
 









شخصية العام

كاريكاتير

إستطلاعات الرأي