فيلم خالد .. «ريوبرافو»: الفيلم الأمريكي الذي عشقه النقاد السينمائيون

2022-04-28

دين مارتن (يمين) وجون وين وريكي نلسن (تواصل اجتماعي)زيد خلدون جميل*

امتاز عام 1959 بعرض عدة أفلام شهيرة بقيت في ذاكرة النقاد والجمهور، لكن أكثرها بقاء كان فيلم «ريوبرافو» Rio Bravo الذي كان من بطولة جون وَين ودين مارتن وريكي نلسن وآنجي ديكنسن، الذي أصبح من أبرز رموز أفلام رعاة البقر الأمريكية. وما يزال أحد أكثر الأفلام تداولا بين مؤرخي السينما ودارسيها، حيث وصف بأنه أفضل مثال للشجاعة والصداقة في تاريخ أفلام رعاة البقر. والغريب في الأمر أن دراسة متعمقة لهذا الفيلم تجعل المرء يطلع على الكثير من الأساليب الخفية التي يلجأ إليها صانعو الأفلام لضمان نجاح أفلامهم.

أحداث الفيلم

تبدأ أحداث الفيلم في إحدى مدن الغرب الأمريكي في نهاية القرن التاسع عشر حيث يقوم الشاب «جو برديت» (كلود أيكنز) شقيق أغنى رجال المنطقة وأكثرهم شرا وأقواهم نفوذا، بضرب السكير «دود» (دين مارتن) في إحدى الحانات. وعندما يحاول أحد الموجودين إيقافه يطلق «جو» النار عليه فورا ليرديه قتيلا أمام السكير «دود» وشريف البلدة «تشانس» (جون وَين) الذي كان موجودا في الحانة، فيعتقله الشريف ويزجه في السجن كي يسلمه إلى المسؤؤول الأمني «المارشال» للمنطقة، الذي سيصل المدينة بعد أيام ليقدمه بالتالي للمحاكمة بتهمة القتل. ويكتشف الشريف سريعا أن ذلك الثري المتنفذ أخذ يعد العدة لإطلاق سراح شقيقه المعتقل «جو» بالقوة قبل وصول «المارشال». ويراقب رجاله مقر الشريف باستمرار. وبالتالي يجند الشريف العجوز «ستمبي» (وولتر برينان) والسكير «دود» لمساعدته، فالأول كان في شبابه عنيفا ومعروفا بحقده على الثري، بينما الثاني كان قبل إدمانه الخمر من أمهر الرماة ومساعدا للشريف. ويحاول «دود» بنجاح الابتعاد عن الكحول واستعادة مهاراته في الأسلحة النارية. وفي هذه الأثناء تصل البلدة قافلة تجارية بقيادة صديق قديم للشريف، وكان أحد حراسها شاب يدعى «كولورادو» (ريكي نلسن) عرف بمهارته في استعمال المسدس. ويعرض هذا الصديق على الشريف مساعدته في مواجهة الثري الشرير، لكن الشريف يرفض ذلك لعدم كفاءته، لاسيما أن الثري لديه أربعون مقاتلا محترفا. وفي هذه الأثناء يتعرف الشريف على فتاة جميلة تدعى «فيذرز» (أنجي ديكنسن) تحترف المقامرة ويكتشف أنها مطلوبة من قبل الشرطة، وكانت مقامرة وتعمل غانية في الحانات، لكنه يتجاهل ذلك ويعرض مساعدته لها عندما يكتشف أنها لا تغش في المقامرة وتحاول «ملاطفته» ومساعدته.
ينضم الشاب «كولورادو» الذي رافق القافلة التجارية، إلى الشريف في صراعه مع الثري الشرير. وبعد عدة معارك عنيفة خاصة قبيل نهاية الفيلم ينتصر الشريف على الثري الذي يستسلم مع رجاله.

جون وين وأنجي ديكنسن
خلفية وتناقضات وتسويق

كان واضحا منذ بداية الفيلم أن الكثير من الأحداث والأفكار مقتبسة من أفلام سابقة. ولم يكن هذا سراً، بل كشف ذلك المخرج بنفسه حين قال، اقتبست فكرة الفيلم من الفيلم الشهير «منتصف الظهيرة» High Noon (1952) الذي كان بطله غاري كوبر الذي مثل دور مارشال يكتشف أن عصابة قادمة إلى المدينة لقتله، فيطلب من سكان المدينة مساعدته في مقاومة العصابة. لكن الجميع يرفض ذلك، ما يجعله مضطرا إلى مقاومة العصابة بمفرده وينجح في القضاء عليها. وكان اعتراض المخرج، أن فكرة ذلك الفيلم غير معقولة لأن السكان في هذه الحالة كانوا سيهرعون لمقاومة العصابة والانتصار عليهم، وكان الممثل جون وَين من أكبر مؤيدي المخرج، ولذلك أدعى المخرج أنه قام بإخراج هذا الفيلم لتصحيح تلك الفكرة الخاطئة التي قدمها فيلم «منتصف الظهيرة». ومن الواضح أن أدعاء المخرج وجون وَين كانت دعاية كبيرة للفيلم في أوساط المشاهدين. لكن فيلم «ريو برافو» في الحقيقة لم يختلف عن الفيلم الأول، إذ لم يهرع السكان المحليون لمساعدة الشريف، وأما قائد القافلة التجارية الذي عرض على الشريف المساعدة فلم يكن محليا. وكان الاستثناء المحلي الوحيد صاحب حانة محلي تعمل فيه الغانيات. ولم تقتصر الاقتباسات على هذا، إذ نجد الكثير منها من أفلام اشترك فيها المخرج مثل «العالم السفلي» Underworld (1927) و»أن نملك ولا نملك» To Have and Have Not (1944) و»النوم الكبير» The Big Sleep (1946).
في الوقت الذي يبدو الشريف ينفذ القانون بدقة متناهية، فإنه يساعد الفتاة «فيذرز» بشكل غير قانوني ويحميها من الملاحقة الأمنية، لأنها جميلة وأظهرت مشاعر خاصة تجاهه، بينما من الواضح أن العلاقة بينهما اعتمدت على المصلحة، حيث أعطته ما أراد مقابل توفير الحماية لها. وفي الواقع أن وجود الفتاة «فيذرز» في الفيلم كان غير مناسب، لكنه كان واضحا أن المخرج أراد فتاة جميلة وعلاقة غرامية لتجميل الفيلم وزيادة شعبيته، ووقع اختياره على الممثلة الجميلة والجديدة آنذاك أنجي ديكنسن التي ظهرت في لقطات إباحية بمعايير تلك الفترة. وقد ركز المخرج على هذا الجانب بطريقة تسويقية غير عادية، إذ قام بجلب مصورين لتصوير الممثلين في موقع تصوير الفيلم كي تنشر هذه الصور في الإعلام كدعاية للفيلم. وظهر جميع الممثلين في ملابس التمثيل في هذه الصور باستثناء أنجي ديكنسن التي ظهرت بملابس لم تظهر فيها في الفيلم، لكنها أظهرت مفاتنها. وربما كان على القائمين على الفيلم تسميته «الغانية فيذرز».
كانت من محاولات المخرج لجعل الشخصيات الطيبة في الفيلم أكثر قربا من المشاهد وتمييزهم عن الشخصيات السيئة أنه أعطاهم أسماء كنية بسيطة جدا تنم على الود، فليست أسماء «دود» و»ستمبي» و«فيذرز» حقيقية، مع استثناء طفيف واحد، وهو اسم بطل الفيلم جون وَين الذي كان اسمه في الفيلم «تشانس» الذي كان اسم عائلته.

اختيار الممثلين

كانت معايير اختيار الممثلين للفيلم ضعيفة العلاقة بمدى كونهم مناسبين لأدوارهم، حيث كانت شهرتهم المعيار الأول، فجون وَين كان في الثانية والخمسين من عمره وغير مناسب لدور الشريف لتلك الفترة، فالشريف الحقيقي كان أصغر سنا بكثير، وبدا الممثل غير قادر على القيام بالحركات السريعة. ولم ينفع الشعر المستعار، إذ أن شعر جون وين كان قد بدأ بالتساقط منذ أربعينيات القرن العشرين، كما بدا غير مناسب ليكون حبيب أنجي ديكنسن ليس فقط بسبب الفارق الكبير في السن بينهما، بل لأن جون وَين لم يكن وسيما وكان يبدو أكبر من سنه الحقيقي منذ بداية مسيرته الفنية. وزاد الطين بلة فرق الطول الكبير بينه وبين أنجي ديكنسن. لكنه كان أشهر ممثل لأفلام رعاة البقر في هوليوود آنذاك وتمتع بشعبية لم يكن لها نظير حتى الآن، ما جعله دافعا مهما للجمهور لمشاهدة الفيلم. وكعادة جون وَين، فإنه لا يُظهِر أي علامات للخوف أو التوتر طوال الفيلم، وكأنه يستمتع بإجازة، ولذلك فإنه لم يكن يحاول أن يمثل دورا، بل كان يستعرض نفسه.
أما ريكي نلسن، فكان السبب الوحيد لوجوده في الفيلم أنه أحد أشهر المغنيين الشباب في الولايات المتحدة الأمريكية آنذاك. وكان واضحا أنه في حاجة ماسة لبعض الدروس في التمثيل، إذ أن محاولته لتمثيل الشاب العنيف بدت غير مقنعة. بالنسبة لدين مارتن، الذي كان ربما الأفضل تمثيلا بين أبطال الفيلم لاسيما دور السكير لاشتهاره بذلك في حياته الحقيقية، فإن مظهره الطيب يجعل دوره كمساعد للشريف غير ملائم. لكنه كان أحد أشهر المغنيين في الولايات المتحدة بالنسبة للجيل الأكبر سنا من جيل المعجبين بريكي نلسن وممثل شهير كذلك. وبذلك يجذب الفيلم المعجبين بكلا المغنيين. وبطبيعة الحال قدم كل من دين مارتن وريكي نلسن أغنية جميلة.
وماذا عن الجميلة الجديدة أنجي ديكنسن؟ كانت مشكلة الممثلة مظهرها الحديث والراقي، ما جعل تمثيلها لدور غانية في القرن التاسع عشر غير مقنع، لكن الفيلم كان بداية هذه الممثلة لمسيرة فنية طويلة ومثمرة، حيث أصبحت سريعا إحدى أشهر ممثلات السينما الأمريكية لعقدين من الزمن.
تضمن الفيلم مشاهد معارك كثيرة وشهيرة لاسيما المعركة الأخيرة التي ينتصر فيها الشريف. وبذلك، فإن الفيلم نجح في تلبية جميع متطلبات الجمهور بالنسبة لانتصار الحق ومشاهد العنف والمقامرة والغناء ونجوم السينما والفتاة الجميلة. ومع ذلك، امتاز الفيلم بالمظهر الطيب الواضح لأبطاله وتصرفاتهم المرحة، حتى بدا الفيلم وكأنه فيلم فكاهي، ما جعله مختلفا عن أفلام رعاة البقر الحديثة التي يمتاز أبطالها بمظهر يدل على القسوة المفرطة.

جون وين (يمين) ووولتر برينان ودين مارتن
الفيلم والواقع

تناولت السينما الأمريكية نسخة خيالية لحياة رعاة البقر في الغرب الأمريكي في الفترة بين الحرب الأهلية الأمريكية (1861 – 1865) ومنتصف تسعينيات القرن التاسع عشر. والسؤال هو «هل كان الفيلم قريبا من الواقع»؟ كانت الملابس التي ارتداها الممثلون في الفيلم ملابس قريبة بعض الشيء من ملابس رعاة البقر الحقيقيين في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، على الرغم من أن أغلبها كانت ملونة أكثر من الواقع ونظيفة دائما، ما يخالف الواقع لتلك الفترة. وبالتأكيد لم يرتدِ رعاة البقر آنذاك ملابس سوداء كما يظهر في الأفلام الحديثة، إذ كانت تلك الملابس تتسخ بسرعة ولم تستعمل إلا في المناسبات الخاصة، لاسيما الذهاب إلى الكنيسة أيام الأحد. ولم تكن شوارع المدينة نظيفة على الإطلاق، بل مغطاة بالقاذورات ومخلفات الحيوانات. وكانت الحانات قذرة وكثيرة جدا، كما افتقرت إلى الجعة الباردة التي كان جون وَين يشربها في الفيلم لعدم امتلاكهم ثلاجات في تلك الفترة. أما عند شعور الشريف بالخطر، فقد كان قادرا على تجنيد شباب محليين كفرقة لتنفيذ القانون. وكان هؤلاء يتحولون أحيانا إلى عصابة للسلب بالاشتراك مع الشريف نفسه. وفي حالات أخرى كان الشريف قادرا على طلب المساعدة من مدينة مجاورة.
بشكل عام يظن بعض المؤرخين أن مدن رعاة البقر لم تكن بالعنف الذي يظهر في الأفلام، فمثلا الشريف «وايلد بل هيكوك» الشهير فقد وظيفته لأنه قتل اثنين من المجرمين، حيث اعتبر مجلس المدينة تصرفه عنفا مفرطا وقام بفصله. ولا يذكر التاريخ الأمريكي الكثير من الصراعات بين الشريف والطبقة الثرية المحلية، لكن تعاون غير قانوني بين الاثنين لم يكن نادرا. وفي أحيان أخرى كان الشريف منخرطا في أعمال تجارية خاصة به ويستعمل منصبه لدعمها، وأحد أشهر الأمثلة على ذلك الشريف أرب ويات، الذي قام هو وأخوته بقتل مجموعة من المنافسين التجاريين عام 1881 في مواجهة مسلحة شهيرة أصبحت الأكثر ظهورا في أفلام رعاة البقر، ومثّل فيها بعض أشهر ممثلي السينما الأمريكية. ومما هو جدير بالذكر أن لا علاقة لكلمة «الشريف» هنا باللغة العربية، فاسم هذه المهنة مقتبس من كلمة إنكليزية.

أقتباسات من الفيلم

لم يقتبس مخرج الفيلم أجزاء كبيرة من الفيلم من أفلام سابقة له وحسب، بل إنه أعاد إنتاج الفيلم عدة مرات بأسماء مختلفة وبنجاح كبير، إذ أخرج فيلم «ألدورادو» El Dorado عام 1966 وفيلم «ريولوبو» Rio Lobo عام 1970 ومثل جون وين دور البطولة في كل منهما. وبعد ذلك قام المخرج جون كاربنتر عام 1976 بإخراج نسخة من الفيلم باسم «هجوم على المركز رقم ثلاثة عشر» Assault on Precinct 13 عام 1976 الذي تدور أحداثه في العصر الحديث. ما تزال أفلام رعاة البقر تسحر المشاهدين حتى الآن نظرا لأهمية أسطورة رعاة البقر في الثقافة الشعبية الأمريكية. وأشهر مسلسل تلفزيوني في الولايات المتحدة حاليا يدعى «1883» وهوعن رعاة البقر.

*باحث ومؤرخ من العراق







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي