
سليم البيك*
لم يُثر الفيلم أي نقاشات في كونه فيلماً لمخرج إسرائيلي يحكي عن فلسطينيين. ما أثير كان في «إسرائيلية» الفيلم كما تقدّم في مهرجان كان السينمائي 2021 (تظاهرة «نظرة ما») حين رفض العاملون الفلسطينيون فيه التوجهَ إلى المهرجان وتمثيل الفيلم الذي يمثّل، بدوره، دولة إسرائيل، وأصدروا بياناً نال دعم مخرج الفيلم عيران كوليرين.
وقد تناولتُ حينها النقاش في مقالة بعنوان «بيان الفنانين الفلسطينيين حول «فليكن صباحاً»: متى لا يكون الفيلم إسرائيلياً؟» (القدس العربي 13/5/2021).
من عنوان المقالة تتضح فكرتها، وهي السؤال عن كون الفيلم، أي فيلم، غير إسرائيلي. هنا، في هذه الأسطر، أسأل: متى يكون الفيلم، أي فيلم، فلسطينياً.
الفيلم هذا لمخرج إسرائيلي وبتمويل إسرائيلي (نال جوائز إسرائيلية) وبتمثيل بالتالي لدولة الاحتلال في المهرجانات الأجنبية. كل ذلك ينحصر في ما هو حول الفيلم، أمّا الفيلم ذاته، في محتواه، فالمسألة ليست ببساطة التصنيف الإداري والشكلي. في المقالة السابقة رجّحت ألا يكون الفيلم إسرائيلياً، وفي هذه المقالة، بعد مشاهدته وبمعزل عن النقاش السابق، وبحديث في ما هو داخل الفيلم لا خارجه، أثبّت ما رجّحته بالقول إنّ الفيلم غير إسرائيلي. ما يحيلنا إلى الطبقة التالية من السؤال وهي، إن كان فيلماً فلسطينياً، وهذا يعيدنا إلى البحث في معنى أن يكون الفيلم، أي فيلم، فلسطينياً.
نبقى في كونه غير إسرائيلي. هو كذلك إدارياً وتقنياً ومالياً، لكنها ليست الاعتبارات التي تقنع كاتب هذه الأسطر في هوية أي فيلم (أو أي عمل فني) وإلا لما بقي إلا القليل من كل تلك الأفلام في مسيرة السينما التي يصنعها فلسطينيون، ما يمكن وسمه بالفلسطينية. أترك هذه الاعتبارات البيروقراطية للمقاربات الكسولة من ناحية، الميكانيكية من ناحية ثانية، الاستهلاكية التي تقدّم التمويل على أي اعتبار آخر في أي حديث في الفنون من ناحية ثالثة.
نبقى في «فليكن صباحاً» وقد نزل إلى الصالات الفرنسية هذه الأيام، وحديثي متركّز على مضمون الفيلم بمعزل عن صانعه وتمويله. ليست مقوّمات تعريف الهوية، أيّ هوية، بالنسبة لكاتب هذه الأسطر، إدارية تعود إلى وثائق وموظفين حكوميين وبَلادة فكرية تحوم حول العمل الفني. الحديث عن الهوية المعنوية للفيلم، وليس أوراق اعتماده المقدّمة لهذا المهرجان أو ذاك. هذا يحيلني إلى القول إن بعضاً من أهم الأفلام في السينما الفلسطينية نالت (لظروفها الخاصة) تمويلاً إسرائيلياً، أو تمويلات أوروبية وعربية متفاوتة قد تكون آخرها الفلسطينية، وهذه الأخيرة تكون لإتاحة إضافة كلمة «فلسطين» في تعريفات الفيلم في هذا الكاتالوغ أو ذاك. رغم الدور الإعاقي والقمعي، والمستديم، لوزارة الثقافة الفلسطينية في هذا الشأن، وفي غيره.
فيلم المخرج الإسرائيلي، الذي تقدّم باللغة العربية، من الملصق إلى الجينيريك إلى الحوارات، هو، في ذاته وبمعزل عمّا يحيط به، فلسطيني في شخصياته وحكايته وأمكنته، هو، سياقياً كذلك، فلسطيني، وهو سردياً كذلك فلسطيني، وهذه الأخيرة أساسية في تعريف ماهيّة الفيلم الفلسطيني. سردية الفلسطينيين منذ النكبة وما قبلها وما بعدها، حتى اليوم، كأصحاب حق في أرضهم وتاريخهم وفي رواية هذا التاريخ، وتمتين العلاقة بين الشخصيات الفلسطينية وأمكنتهم، وانسجام الحكاية مع ذلك، هذا كلّه يدلّ على فلسطينية هذا الفيلم أو ذاك، والحديث هنا ثقافي وتاريخي وسياسي في معنى الفيلم، وليس في وثيقة تدلّ على أنّ الفيلم نال تمويلاً هنا، أو مثّل الاحتلال هناك. هذا التمويل وذلك التمثيل يؤخذان بعين الاعتبار، ويبعثان على أسف أو غضب، لكن يجب أن لا تكون الأوراق الإدارية هي المرجعية لتعريف أي فيلم.
في مقاربتي هذه، لا أريد من ناحية، أن تُزاح أفلام لها مكانتها ومكانها في تاريخ السينما الفلسطينية، بسبب تمويلات إسرائيلية، ولا أريد من ناحية أخرى أن يُزاح تعريف الهوية الفلسطينية عن معناه الفكري والسردي بسبب أوراق إدارية. لا تنتهي أي لائحة لغير الفلسطينيين ممن أضافوا إلى المعنى والهوية الفلسطينيين، وإلى السردية الفلسطينية، بإخراجهم فيلماً، أو تأليفهم رواية، أو تنظيمهم مظاهرة، أو تقديمهم، وهذا أقصاه، أرواحهم مقاتلين في مجموعة فدائية. رواية لإلياس خوري (بل مجمل عمل إلياس خوري الأدبي والصحافي) وفيلم لمحمد ملص، وملصق ليوسف عبدلكي، وغيرها، ليست أقل فلسطينية من رواية وفيلم وملصق لأي فلسطيني يحمل وثيقة لا معنى لها، «تثبت» انتماءه الحدودي والمحدود.
من كل ذلك، أستطيع القول إنّ «فليكن صباحاً» ليس إسرائيلياً، بل ليس إسرائيلياً مناصراً لحق الفلسطينيين، فهو لم يقدّم الحكاية الفلسطينية فيه من زاوية الإسرائيلي الرافض لدولته، مهما كان مستوى الرفض، بل أتى الفيلم من زاوية الفلسطيني لسرد حكاية فلسطينية. الفيلم فلسطيني لمخرج إسرائيلي، الفيلم فلسطيني بتمويل إسرائيلي. المسألة بعيدة كل البعد عن الكسل الذهني، وهو حال الفنون في كل مسائلها، وهو ليس حال الإداريات التي تفصل، بسهولة، الأوراق في مصنّفات معزولة في خزائن معدنية.
لا يكون القول في فيلم ما، إنه فلسطيني، إلا بهوامش طويلة، تشرح المقاربة والمنطَلق لهذا القول، واعتباراته الأولية. من هنا أقول إن فيلم «باب الشمس» للمصري يسري نصرالله فلسطيني. كذلك أرفض تناول فيلم «رجال في الشمس» لتوفيق صالح، كفيلم مصري حسب مخرجه أو سوري حسب مموله، بل فلسطيني لا يقل في هويته هذه عن أي فيلم لمخرج فلسطيني، وكذلك حال «عائد إلى حيفا» للعراقي قاسم حول. تعريف أحدنا لمعنى الهوية الفلسطينية هو ما يحدد، لديه، معنى هوية الفيلم الفلسطيني، وهذا مثار جدل أساسه أولاً أن «الفلسطينية» أساساً وفي شكلها الأسمى، هي الثورة والقضية والفكرة، وهذه مقارباتٌ لغسان كنفاني وإدوارد سعيد ومحمود درويش وغيرهم مساهمات فيها، وهي تراث يساري فلسطيني، حيث المقاربة الأممية والإنسانية للقضية الفلسطينية، وقبلها للثورة الفلسطينية، مقابل الوطنية المحدودة والقاصرة، في منح فلسطين عالميّتها المتخطية لحدود متخيّلَة لدولة غير موجودة، ولنشيدين وطنيين غير متّفَق عليهما.
هل يمكن القول من بعد كل ذلك، إنّ «فليكن صباحاً» فيلم فلسطيني؟ الفيلم كعمل فني مكتمل بذاته، من لحظة التلقي الأولى له حتى الأخيرة، فلسطيني، إنّما لا يمكن الإجابة بكلمة واحدة دون إرفاقها بهامش عريض يوضّح معنى أن يكون العمل فلسطينياً، ومعنى ألا يكون إسرائيلياً، ويتفاوت التعريف هذا من شخص لآخر حسب مقاربات آخرى وأولويات واعتبارات أحدنا تجاه معنى الهوية والسردية الفلسطينيتين.
الفيلم الذي يحكي عن عائلة فلسطينية شمالي فلسطين، في منطقة الـ 48، يبدأ بعرس أحد أبنائها وتستمر تبعات الحياة المعقدة هناك، بدءاً من العرس والإغلاق والعلاقات الزوجية المتوترة، مروراً بتشنجات محلية بسبب زعران محسوبين على المجلس المحلي، وانتهاء بإغلاق جيش الاحتلال المنطقة بسبب بحثهم عن فلسطينيين تسللوا من الضفة الغربية دون تصاريح عمل. هذا كلّه ضمن محلّيات فلسطينية، دون إشارة إلى الاحتلال إلا كمسبب للإغلاق، ومن خلال جندي، شاب بسيط يعزف الغيتار ويحاول مساعدة شقيق العريس القادم من القدس والعالق، ليعبر الحاجز كي يستطيع إجراء مكالمات تليفونية. هذا الجندي ذاته، اللطيف، يطلق النار، مفزوعاً، على فلسطيني فيقتله.
بخلاف العديد من الأفلام الفلسطينية التي تحاول إظهار جندي إسرائيلي أو ضابط، بلباس إنسانوي مبتذَل (مسألة تعيدنا دائماً إلى الممول الغربي) يُظهر هذا الفيلم استسهال إطلاق النار على فلسطينيين. هو، في مضمونه السياسي، أقرب إلى أفلام فلسطينية يُعجب أحدنا بها، دون أخرى مخجلة في محتواها السياسي. وللفيلم مرجعيات فلسطينية كذلك، فاستهلاله بالعرس وتعلّق كل ما يلي العرس به، يحيل إلى فيلم «عرس الجليل» لميشيل خليفي، الذي استهلّ ببدء الترتيبات للعرس المتواصل على طول الفيلم. والفيلمان ينتهيان بتجمّع للأهالي، في مشهد شعبي تمرّدي مواجه للاحتلال وجنوده. هذا المشهد الأخير في «فليكن صباحاً» يعود بنا إلى ما هو أبعد من «عرس الجليل» في إحالاته للسينما الفلسطينية، وذلك في «كفر قاسم» لبرهان علويّة (نعم، الفيلم فلسطيني بمخرج لبناني وتمويل سوري) وهي الإحالة الأقرب إذ تجمّع الأهالي محتجين عند قبر ضحايا المجزرة، في مشهد أخير صامت كما هو مشهد «فليكن صباحاً» الأخير، الصامت، المحتشد عند حاجز شهدَ أولاً على إعدام ميداني لفلسطيني، كما كانت إعدامات «كفر قاسم» وشهد ثانياً على حالة الإحكام والعزل والفصل الذي يعيشه فلسطينيو الـ48، وهو ما كان في فيلم علويّة، سياقياً، في صورة الحكم العسكري الذي عاشه فلسطينيو الداخل في السنوات اللاحقة للنكبة. ولا تنتهي الإحالات إلى السينما الفلسطينية هنا، بل تمتد إلى ما لا يمكن تخطيه في أي تناول ساخر لسياق فلسطيني، وهو سينما إيليا سليمان، وهنا في مشهد هزّ الرأس من داخل السيّارة، كما فعل الجنود من داخل الجيب العسكري أمام نادٍ ليلي، في «الزمن الباقي» لسليمان.
يطرح «فليكن صباحاً» وهو ليس فيلماً عظيماً إنّما هو لطيف ولذيذ وجيد، أضافت موسيقى حبيب شحادة حنا إلى جودته، يطرح الفيلم سؤالاً جديداً في معنى الهوية الفلسطينية سينمائياً، وهو سؤال لا يزال غير مستقر، وهذه ميزة بالمناسبة، وسيبقى كذلك طالما لم يصل الفلسطينيون إلى حالة الدولة القومية، وهذه الأخيرة غير مستعجَل عليها، والأفضل تفاديها في الحالة الفلسطينية الراهنة.
الأفضل، تالياً، ألا نبحث عن أجوبة لسؤال لا بد أن يبقى مفتوحاً، وتحديداً رحباً: ما هي السينما الفلسطينية؟
*كاتب فلسطيني سوري