

بيروت- جورج جحا- كتاب الروائي العراقي علي بدر القيم عن المستشرق الشهير لويس ماسينيون استنادا إلى رسائل كتبها ماسينيون وقام بدر بترجمتها وتحقيقها اتسم بمتعة روائية وبنهج نستخلص من كلام المؤلف أنه يصح أن يوصف بأنه يقارب الموضوعي.
أما قراءة علي بدر الفكرية لآراء ومواقف واتجاهات لدى المستشرق الفرنسي فقد جاءت "خاصة" كما قال الكاتب الروائي ووصفها بأنها تشبه بعض قراءات ماسينيون لمسائل مختلفة والتي جاءت خاصة به أيضا.
الكتاب الذي جاء في 334 صفحة متوسطة القطع حمل عنوان "ماسينيون في بغداد.. من الاهتداء الصوفي إلى الهداية الكولونيالية" وصدر عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر وعلى غلافه صورة فوتوغرافية للمستشرق الشهير.
وفي فصل تحت عنوان فرعي هو "المخطوطات القديمة وقصص بورخيس" قال علي بدر "الروائي" إنه "إذا كان لكل كتاب حادث فحادث هذا الكتاب ينتمي بعمق إلى واحد من القصص البورخسية" نسبة إلى الروائي والشاعر الأرجنتيني خورخي لويس بورخيس.
أضاف أن كتابه ينتمي إلى عالم قصص بورخيس "أكثر مما ينتمي إلى الواقع لا بغرابته ومفاجآته فحسب إنما بالنقاط الدالة التي تحملها الوثيقة والتي تضيء ببطء وعلى نحو غير متوقع -كل مرة تقريبا- حياة وأحداثا وشخصيات وتعيد بناء العالم على الخلفية التي تآكلت وتهدمت".
وشرح كيفية توصله إلى رسائل ماسينيون في متحف المخطوطات العراقية فقال إن قاسم محمد عباس الباحث المحقق العراقي "وهو في إطار عمل موسوعي لتحقيق الأعمال الكاملة للحلاج... هو الذي نبهني لمجموعة من رسائل المستشرقين الفرنسيين وماسينيون بينهم مرسلة إلى "الباحث والمحقق العراقي" الأب انستاس ماري الكرملي.
"فذهبنا في ظهيرة يوم قائظ هناك لافك لغزها ولم يكن بإمكاني أن اكبت مفاجأتي أمام أكثر من مائتين وثمانين رسالة ووثيقة تخص ماسينيون مكتوبة باللغة الفرنسية كان قد أرسلها إلى الأب انستساس ماري الكرملي على مدى الثلث الأول من القرن العشرين. وأنا إذ استعيد هذه اللحظة التي مضى عليها عامان لا يمكنني أن أكبت إلى اليوم ارتجافي الأول أمام الورق الذي شف لتقادمه والحبر الذي نصل وهو يسجل أهم مرحلة من مراحل الاستشراق لا في الغرب حسب إنما في العالم برمته".
ورأى بدر أن أهمية هذه الرسائل "تكمن في كشفها بشكل واضح وصريح عن العلاقات الثقافية والفكرية والمعرفية بين المثقفين العرب والمستشرقين وتبين على نحو فعال الآليات التي ينتظم فيها الخطاب الاستشراقي عبر رسائل واحد من أهم المستشرقين لا في ذلك القرن فحسب انما منذ تأسيس مدرسة الاستشراق بوصفها المعرفة الخابرة بالشرق من أجل توصيفه وفهمه والاحتياز عليه وضمه...".
وأعاد هنا في أحد الهوامش التذكير بما قاله الراحل ادوارد سعيد في كتابه عن الاستشراق من أنه لم يكن عملا "جماليا او بحثيا او تاريخيا او فيلولوجيا منفصلا بل هو تمفصل سياسي لمصالح سياسية يقوم الاستشراق بخلقها وتكوينها والمحافظة عليها بوسائل متعددة... فهو خطاب له علاقة تطابقية مع السلطة السياسية في الغرب..."
وقال إن الرسائل "تبين على نحو جلي الانشباك الفوري والسريع لهذا الخطاب مع الفعاليات السياسية والمماسات الكولونيالية في المنطقة في الثلث الاول من القرن العشرين وتبين كيف أن هذا الخطاب لم يكن بأجمعه قائما على الفكرة الكولونيالية في تفضيل المصالح الانية انما هنالك المعرفة الخالصة والمستقلة".
بدر الذي ترجم الرسائل وحققها وقدمها إلى القارىء العربي مضى يقول "صحيح أن بعض هذا الخطاب قد استخدم كقوة واسعة النطاق لتبرير الهيمنة والسيطرة والضم من جهة ومن جهة اخرى قوة للاجتثاث وتفكيك الهوية وتبرير المكيافيلية السياسية وتدفق الاحقاد لكن هنالك وبالموازاة منه كان الخطاب العلمي والثقافي الذي يقارب بين هذه الثقافات والمجتمعات".
ورأى المؤلف أن هذه الرسائل التي ترجمها عن الفرنسية ونشرها في كتابه "تكشف عن الطابع الذي يعد طابعا ملغزا وملتبسا في عمل ماسينيون حين قرب بين الاسلام والمسيحية في صلب الحلاج وقرب بين الاسلام والمسيحية في شخصيتي فاطمة ومريم وقرب بين الاديان السماوية الثلاثة في شخصية ابراهيم...".
وأوضح أن ماسينيون كان "عبقرية خارقة.. عبقرية مشحونة على الدوام بأفكار وتيارات ثقافية كبرى وكان مؤمنا على نحو متميز بأعمال انسانية كبيرة وبمشاريع كونية وبأفكار ذات طابع يوتوبي وقد لعب دورا هائلا ومتميزا في الثقافة والسياسة في المنطقة العربية...
"وقد ابرز الى السطح الافكار الصوفية والاسرارية والشعبية في الثقافة العربية ولعب دورا اساسيا في مجال التاريخ السياسي في منطقتنا بل كان واحدا من صناع الاحداث التاريخية الكبرى التي زلزلت مجتمعاتنا" منذ ان اصبح مستشارا سياسيا للدبلوماسي الفرنسي فرانسوا جورج بيكو في الاتفاق الذي وقعه باسم دولته مع ممثل بريطانيا الدبلوماسي السير مارك سايكس في ما عرف باتفاقية سايكس - بيكو التي قسمت فيها الدولتان وتقاسمتا المنطقة العربية.
ومع ذلك فان ماسينيون كما قال بدر "كان بحق مثقفا منخرطا في القضايا الكبرى في التاريخ فعمل بصدق ونزاهة كبيرتين لبلوغ العدل الانساني بعيدا عن الغطرسة العرقية والدينية وهي الخصيصة الاصلية لمثقفين كثيرين في عصره".
وعرض المؤلف ما اسماه "الدراما الهائلة التي حددت حياة لويس ماسينيون في عمر الخامسة والعشرين وهي تجربة حكم احد الضباط العثمانيين عليه بالاعدام بتهمة التجسس بعد ان وصل الى بغداد سنة 1908 في بعثة اثارية للبحث عن قصر اللخميين اي قصر الاخيضر جنوبي بغداد. وخلال اعتقاله مر بتجربة صوفية. وقد توسط له رجلان "من اسياد المسلمين" في بغداد هما العالمان علي الالوسي ومحمود شكر الالوسي فأطلق حازم بك سراحه. وزوده آل الألوسي بخاتم يحمل اسم "محمد عبده ماسينيون" أخذ يوقع به رسائله طوال حياته.
تلك التجربة "حددت فيما بعد قدره ومصيره وحياته بل هي التي ألهمته العيش متصوفا... وايقاف حياته برمتها على البحث عن اسرار روحية في الثقافة العربية الاسلامية...".
وعن ماسينيون الذي تطوع للقتال مع الحلفاء في الحرب العالمية الأولى قال بدر ان هناك فجوة كبيرة في حياة ماسينيون وفي عمله الفكري بسبب مزاولة العمل السياسي." تظهر هذه الفجوة على نحو جلي في الرسائل التي أرسلها الى الأب انستاس ماري الكرملي وتتحدد بين العام 1914 والعام 1920 فعمله السياسي وضع بصمة واضحة على تراثه البحثي والعلمي والأدبي...".
وبعد اندلاع الحرب انقطعت رسائله باستثناء بعض الرسائل التي بعث بها من الجبهة "وحل محل رسائله المتبحرة بالعلوم الاسلامية والاداب الشرقية والتصوف الاسلامي الخطاب السياسي الجديد لماسينيون وهو خطاب ذو طابع تبشيري كولونيالي كان يطرحه الغرب عقب اندلاع الحرب العالمية الأولى".
يختصر علي بدر منهجه في الكتاب بصراحة جمعت بين الموضوعي والذاتي الروائي فيقول "في الواقع أن هذه الوثائق والرسائل... خضعت لرؤيتي وتفكيري ومنهجي في كتاب هو كتاب يخصني أكثر مما يخص ماسينيون. لقد انتزعت من ماسينيون حق الكلام وحقه في الدفاع عن نفسه وقمت بأسلبة تفكيره وحياته الخاصة وأفكاره ورسائله الشخصية ومواقفه وترجمتها وأفرغتها في قالب مدون وشكل كتابي.
"وأخضعت هذه الوثائق لتحليلي ونقدي وتأويلي الخاص بي.. وبالتالي هذه الرسائل الشخصية التي أرسلها ماسينيون إلى صديق له في بغداد تحولت إلى كتاب يحمل فكرا ربما لا يوافق عليه ماسينيون. ومثلما خضع الحلاج لرؤية ماسينيون ونقده وتأويله الخاص فقد خضع هو لنقد وتأويل وأفكار الآخرين...".