الفيلم التايواني «التساقط»… الجائحة كحالة إنسانية

2022-02-18

لقطة من الفيلم التايواني «التساقط» (تواصل اجتماعي)سليم البيك*

يحمل العنوان معنيين متوازيين، الأول هو الشلالات، وهو الإشارة المباشرة وغير المرشحة لأن تكون ترجمة لعنوان الفيلم (The Falls)، حيث ينتهي الفيلم ومسار الأحداث فيه، وهي تتداعى، بشلال كاد يؤدي إلى كارثة إضافية على حياة الشخصية الرئيسية، الأم. ومن هنا نذهب إلى الترجمة والإحالة المناسبة للعنوان الأصلي وهو «التساقط»، بمعنى التداعي المتلاحق للأحداث المتساقطة، أو المتساقطة فيها ركائز حياة الشخصية، وهي امرأة تعيش وحدها مع ابنتها، طالبة مدرسة في عمر المراهقة ومزاجها.
من هذه الإشارات إلى العنوان يمكن أن نجد مدخلاً إلى التساقط المتدرج في حياة الأم، والمحاولات غير المنتهية للابنة التي ينقلب مزاجها، كي تسندها محاولةً استدراك تساقطات الحياة اليومية على والدتها.
يبدأ الفيلم بمشاهد تقديمية للأم، التي تتوتر وتصرخ لسبب أول يخص وظيفتها الجيدة، لحظتها تعلم أن زميلة ابنتها في المدرسة خرجت بنتيجة «إيجابية» في فحص فيروس كورونا، فكان على الابنة أن تنعزل في البيت، كحالةِ تَخالط، وبالتالي كان على الأم أن تنعزل هي كذلك فتركت عملها خلالها. الأيام الأولى نشهد توتراً بين الأم وابنتها سببه تمرد الابنة، ورفضها إقامة علاقة جيدة مع أمها، تنقلب الحالة مع تقدم الفيلم ومرور الأيام، لنصير في وضع تهتم البنت فيه بأمها، وذلك لتواتر التساقطات في حياة الأم، التي ستخسر عملها بعدما خسرت زوجها، والد ابنتها، الذي لا تزال تعتقد باحتمالية عودته، والتي ستدخل مركز علاج نفسي، والتي ستضطر للعمل في سوبرماركت، والتي سيحترق بيتها ثم تحاول بيعه وتكاد تقع في فخ السمسار، والتي تتوارد كوارث يومياتها إلى أن تقف، في مشهد أخير وممتاز، أمام التلفزيون تنتظر خبراً عن الناجين من فيضان نهر تنزل مياهه كالشلال، مترقبة صورة يمكن أن تكون لابنتها في النشرة الإخبارية.

 

قد يحصل لتداعيات يومية كهذه، أن تأتي في سياق يمكن للحياة خارجه أن تكون طبيعية، وتكون قصة الشخصية الرئيسية استثناء مبالغاً فيه ضمن حياة رتيبة، لا تكون بهذه الكثافة من الأحداث. لكن الفيلم أتى في تناسق بين الشخصية ومحيطها، بين الفرد والمجتمع، ويمكن إطلاق ذلك على كل العالم، إذ انفتحت المحليات والخصوصيات والتقت في حالة شملت العالم ككل، والحديث هنا عن الجائحة، أي جائحة، وحديث فيلمنا حول جائحة كورونا، حيث يمكن توسيع خصوصية الشخصية هنا إلى مشاهديها خارج محيطها وخارج قارتها، طالما كانت الجائحة إنسانية تماماً. وهذا يزيل عن الفيلم بعض خصوصية المحليات التي تكون عموماً، في السينما من ميزات الفيلم، فكان «تساقط» فيلماً عولمياً بامتياز، لا يكون كذلك بانفصاله عن محليات مجتمعه، بل بتلاشي الحدود في ظروف الجائحة، بين مجتمعه وباقي المجتمعات في العالم، مهما بعدت أو قربت.
من هنا لا أقول إن الفيلم عولمي، وإنه في الوقت عينه إنساني. هو عولمي لعالمية الظرف والحالة فيه، وهو إنساني لأن حديثي هنا لا عن العولمة بمعناها المتداول، عولمة محلية واحدة كالأمريكية، كأن يتناول التايوانيون في الفيلم وجبة ماكدونالدز مطاطية بلا طعم، بل حديثي في مقاربة الفيلم هو عن عولمة الحالة الإنسانية، كالتي عاشها العالم، تقريباً، على قدر المساواة (باستثناء المعاناة المضاعَفة للدول الفقيرة في مواجهة الجائحة). فكان التساقط في الفيلم التايواني، منسوخاً غالباً في مجتمعات قد لا ينتهي تعدادها.
الفيلم واع للحالة التي يصورها، لكنه لم ينغمس فيها، وفي سهولة تماهي المشاهدين معها فلا يشتغل على ما هو خلف الصور المباشرة للفيلم والأحداث الواضحة. يمكن أن نلمس، شكلياً، جماليات بصرية تميز السينما الآسيوية عموماً، الاستخدام المرهف للألوان من ناحية، والطمأنينة في الأجواء المصورة وإن كنا في ظرف جائحة. ويمكن أن نلتفت إلى ذلك أيضاً في الفيلم الآخر لمخرجه مونغ-هونغ تشانغ، «شمس» (A Sun)، وهو، مثل «تساقط» توزيع «نتفليكس» ومتاح عليها. فيلم «تساقط» بدأت عروضه في المنصة أخيراً، وهو قبلها شارك في مهرجان فينيسيا السينمائي ضمن تظاهرة «آفاق» فيه.

لقطة من الفيلم التايواني «التساقط» (تواصل اجتماعي)
يشمل الفيلم ترميزات أتت في سياقها الجمالي البصري، كالشادر الأزرق الذي يغطي المبنى، فيبدو البيت أزرق في داخله، كأنه تلك الأقنعة الزرقاء التي غطت وتغطي وجوهنا لأكثر من عامين، استثمر المخرج ذلك في إضفاء إضاءات ملونة وخافتة منحت، بزرقتها، كآبة يمكن أن تحيل إلى المرحلة الزرقاء في مسيرة الفنان الإسباني بيكاسو، تلك التي حلّ الأزرق بظله، شكلاً، على الموضوعات الكئيبة للأعمال. تقلبات الأمزجة لدى الشخصيتين وخسارة العمل وتدهور الحالة النفسية، هذه كلها إسقاطات على حيوات أفراد تشاركوا زمن الجائحة بكآبته وبمصائبه. لا يحتاج فيلم كهذا أن يكون استثنائياً لا شكلاً ولا مضموناً، وهو ليس كذلك، إنما مقاربة زمن الجائحة برهافة كهذه، لها قيمتها، دون مساومة على الجماليات البصرية، مهما تعممت الحكاية وتساقطت المآسي.

 

*كاتب فلسطيني سوري









شخصية العام

كاريكاتير

إستطلاعات الرأي