شكوى الغريب إلى الغريب

2022-01-16

 معتز رشدي

من الأقاصي، من تخوم النفس، من لسان الطفل في فم الشيخ، من حكمة دائمة الاندهاش، يأتينا هذا الشعر المحمل بالأسئلة، وبشعرية الأسئلة. وهو شعر يفهمه كُثرٌ، ويجهل طبيعته كثرٌ آخرون، وبينهما محبون له، هم، في الوقت ذاته، جاهلون به، لجدته العصية، الواقعية، البسيطة، الآسرة؛ إذ! كيف يأتي الشعر من اللاشعر؟ من أشياء تزهد في تناولها الأيادي، لفرط عاديتها، وقربها منها.

من هناك، يأتي الزائر المحمل بأسئلة الغريب، وتعب الغريب، ظنونه، وخجله المصاحب له، حينما يطرق الباب-باب النفس- ويُفتح له.

من هناك يأتي شعر عبد الكريم كاصد في السنوات الاخيرة، وهو شعر جديد علينا، غريبٌ، وأليف -ألفة الله – في الآن ذاته! هل لاحظتم شيئاً؟ كلّ أبناء جيله صمتوا، وكفوا عن التجديد، عن تقدم في السن، أو ضمور في الموهبة، أما، هو، ففي تجددٍ دائم، ودهشة لا تشيخ.

قرأتُ، اليومَ، نصه، أدناه، للمرة السابعة، أو للمرة الألف، وفي ظني أني ساقرأ نصاً طويلاً، لكنني فوجئت، كما تفاجأت، بعد ثاني، أو ثالث قراءةٍ، له، بقصره النسبي! أيُّ أصداء مديدة تركتها قراءتي الأولى له. وكأنني بعد كل قراءةٍ لا أستعيد سوى الصدى الهارب، المتردد، الجوال.. الصدى نسخ، وقراءة للأثر. فيه ماءٌ ليس في البئر، وفيه بئر تتذكرها الدلاء، هل الدلاء صدى البئر؟ من يدري، لكني كلما عدت إلى قراءة نصوص كاصد الأخيرة، أشعر وكأني تائه دلته يد الله في الصحراء على بئر.. والشعر أنواع؛ منه من يحلق فوقك بجناحين منتوفين. منه من يحدثك بلغة غريبة عن واقع ليس كالواقع، منه المستمني بحجة الإيروس، ومنه الشائخ. شعر عبد الكريم يحدثك حديث طارقي الباب، بخجل الغريب، تعبه، وحيرته.

افتحوا الباب

فقد وصل، من الأقاصي، الغريب.

لا يُغري مطلعها شاعراً مبتدئاً، غراً، وهو – أي المطلع- أبعد ما يكون عن نيل رضا بعض شعراء الحداثة، وما بعدها، لأنهم – كعادتهم- في عليين، بأجنحةٍ لُصِق ريشُها بالصمغ. ها هنا مطلع، هو أشبه بلثغة من يكتب كل مرة، منذ ستين عاماً، وكأنها أول مرة، بخجل الغريب، وعبوره الدائم.

أقصيدة،

أم مرثية مكتوبة شعراً لشهيد زماننا، وشاهده العظيم – غسان كفاني؟

لن أفسد القصيدة بكتابةٍ تقليدية، مألوفةٍ، عنها؛ كأن أكتب سطرين من عندي، وأضع تحتهما مقطعاً، أو مقطعين من قصيدة الشاعر.. لن أفسد عليكم قراءتها كاملة، كما كتبها شاعرها.

ماذا تبقّى؟

ما الذي قد تبقّى لنا؟

يا غسّان كنفاني!

أنطرقُ أبوابَ منازلنا كالصهاريج

(من الداخل)

ولا أحدَ هناك ليفتح؟

٭ ٭ ٭

منْ يصدّق أنّ لأفكارنا في الرأس

سلاسلَ في القدمين؟

٭ ٭ ٭

الكتبُ أرجعتنا أميّين

الدينُ جاهليين

الهجرةُ مقيمين

والخلاصُ ألبسنا أكفانَ الموتى

٭ ٭ ٭

منفرداً

على مسرح كبيرٍعائم

في هذا الفضاء الموحش

كأنّهُ العدم

حتّام ترى أصنعُ أدواراً وأمثّلها..

وحدي؟

٭ ٭ ٭

كثيراً ما تقفُ أحلامُنا

سدوداً غبراء

لأحلامٍ أخرى

٭ ٭ ٭

أشباحٌ

بعكاكيز

ونظّاراتٍ سوداء

أسألها: من أنتِ تُرى أيتها الأشباح؟

تسألني: من أنتَ؟

كيف تعارفنا فيما بعد إذنْ؟

٭ ٭ ٭

يا أمّي

يا أمّي

مآتمُنا أمستْ وأعيادُنا سواء

٭ ٭ ٭

هل تسألني عن آخر أخبارِ الأحياء؟

عفواً..

ليس لديّ سوى أخبارِ الموتى.

شاعر عراقي







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي