أزمات أقوى من الحب الضائع

2022-01-15

إبراهيم عبد المجيد *

 

لكل عمر أزماته النفسية.. الطفولة هي التي لا تدرك أزماتها إلا باستثناءات حين يوجد الطفل في أسرة بشعة السلوك في معاملتها له، أو حين يجد نفسه وحيدا بلا عائلة. هذه استثناءات جعلت لها بعض الدول حلولا. فالأسرة البشعة في أمريكا يمكن جدا أن يتم حرمانها من الطفل، وتتولاه أسرة أخرى. وفي بلادنا التي لا تعرف ذلك، تحل أزمات الأطفال الضائعين بالملاجئ وبيوت اليتامى، وهذا أمر جيد بلا شك.. أما ماذا تصنع هذه الأزمات في شخصية الطفل فأمر مُختلف عليه، فقد يخرج من الملاجئ من يشغل الدنيا جمالا وأملا مثل، عبد الحليم حافظ وأحمد فؤاد نجم، وقد يخرج منها مجرمون، لكن أزمة الأطفال تظل ثانوية في أزمات العمر.
مع الشباب تبدأ الأزمات التي لا يدركها إلا أصحابها، ويمر بها معظم الشباب أو الغالبية العظمى منهم وعنوانها، كيف يكون لي بيت أو وطن؟ تزيد من إلحاح الأزمة قصص الحب الصادق، التي يريد الشباب لها أن تنتهي بالزواج. منذ أكثر من خمسين سنة في مصر، لم يعد الزواج أمراً سهلاً. قديما في القرى والريف كانت العائلة كلها تسكن في بيت واحد، والكل يعمل في الحقول، والزواج لا يحتاج غير غرفة واحدة للزوجين الجديدين إضافة إلى غرف الأخوة الآخرين في العائلة، وغرفة الأب والأم. جرى التغير الكبير على القرى وانفصم عقد العائلة التاريخي، وأصبح كل شخص يريد لنفسه مكانا مستقلا، فحدثت الهجرة إلى المدن، لكن المهاجرين كانوا قليلين قياسا على ما حدث منذ السبعينيات، وحتى الآن. كانت الهجرة من الريف إلى المدن مادة للسينما، لأنها استثناء فقُدمت أفلام مثل «ابن النيل» لشكري سرحان من إخراج يوسف شاهين على سبيل المثال، ثم زادت الهجرة بشكل كبير، فأصبح عمل ابن المدينة في القرية الآن هو الذي يستحق أن يكون مادة لفيلم. لكن المدن منذ السبعينيات لم تعد كافية لحل أزمة الشباب من الريف أو منها، وحدث أن النفط في الدول العربية صار هو الملجأ الجديد، فكانت طوابير المصريين على السفارات العربية للسفر والعمل فيها لا تنتهي، وحدثت عملية أكبر هجرة للمصريين، بعد حرب أكتوبر/تشرين الأول عام 1973 شملت كل الفئات من الصنايعية، إلى الصحافيين والكتاب والمثقفين، وكنت واحداً منهم، أردت ان يكون لي في القاهرة بيت نظيف حسن الاضاءة، فسافرت عاما إلى المملكة العربية السعودية، وعدت لاستأجر شقة أعيش فيها مع زوجتي مودعا زمن الشقق المفروشة والحياة البوهيمية. لم أعرف كاتبا إلا وسافر إلى الخليج. بعضهم أمضى عاما وبعضهم أمضى عشرة أعوام وأكثر، فللمال إغراؤه.
هكذا صار الزواج مرتهنا بالسفر لارتفاع أسعار الشقق إلى حد كبير ـ الآن طبعا إلى حد الجنون وفرص السفر اضمحلت، فدول الخليج تقدمت وشغل أبناؤها معظم الوظائف ـ زادت أزمة الشباب الآن إلى حد قاتل فقبلوا بأعمال بلا راتب مناسب، وصرت ترى مثلا في بعض المطاعم أو محطات البنزين شبابا خريجي جامعات يعملون ولا راتب لهم، إلا البقشيش الذي يحصلون عليه من الزبائن. حدث ذلك مع زيادة السكان.. أجل.. وحدث مع تخلي الدولة عن دورها في الصناعة وتشجيع المجتمع الأهلي على الاستثمار وغير ذلك من مظاهر النهب المنظم للبلاد، التي انتهت بثورة يناير/كانون الثاني. وصل بنا أمر استغلال العاملين أن نقرأ عن انتحار موظف في إحدى شركات خدمات الاتصالات، لأن رئيسه أهانه أكثر من مرة لدخوله دورة المياه كثيرا، ثم فصله من العمل ولم يعد له أي حقوق. صار كثير من الشباب يعملون في أكثر من مكان في اليوم الواحد. طبعا هذا لا ينطبق على أولاد الأثرياء الذين يتوفر لهم كل شيء، لكن ينطبق على الغالبية العظمى من الشباب الذين يشكلون أكثر من ستين في المئة من تعداد الشعب.
اتسعت الأزمة إذن، لكن هناك بعيدا عن الشباب أزمة أخرى يعرفها المتقدمون في العمر، وهي أزمة المرض وفرص العلاج الضئيلة، وارتفاع أسعار العلاج إلى حد الجنون وعدم وجود أماكن كافية للمرضى، وسوء حال معظم المستشفيات الحكومية، والاستغلال البشع لكثير من المستشفيات الخاصة، الذي لا يقدر عليه إلا الأثرياء. هذه أزمة لا يعرفها إلا من كابدها ويكون حلها لأكثر العجائز هو طلب الرحيل، من الله، في هدوء دون أن يشغلوا أحدا. لكن هناك جانبا آخر في هذه الأزمة يزيد منها لدى المثقفين من العجائز وهي النظر إلى الخلف ليروا أن أجمل الأيام كانت في ما مضى. حنين طبيعي أو نوستالجيا طبيعية يزيدها كم الانهيار في السلوك من حولهم، وكم الجرائم في حق النباتات والأشجار والشوارع وحق الناس أيضا. يكون إحساس المثقف الحقيقي لا الوصولي بها كبيرا، فقد أمضى عمره مؤمنا بأن المدينة الفاضلة تقترب، فإذا به يدرك أنها حلم ضائع. جيلي من العجائز ومن هم أصغر قليلا مثلا التحقوا بالمدارس في الخمسينيات فوجدوها واسعة فيها ملاعب للأنشطة الرياضية كلها، وفيها جماعات للموسيقى والفن التشكيلي والبلاغة والرحلات، حتى كانت المدرسة بيتا ثقافيا حقيقيا. لم يكن الفصل الدراسي في المرحلة الابتدائية يزيد عن عشرين طالبا، وفي المرحلة الإعدادية والثانوية لا يزيد عن ثلاثين طالبا، والشوارع نظيفة والنساء فى المدن يرتدين الملابس الأوروبية والحدائق تعرض أفلاما وتعزف فيها فرق موسيقية، وحين يتخرج الطالب من الجامعة يجد عملا بعد أسبوع وكذلك حاملو الدبلومات الفنية، ويكون العمل عادة في مصنع من مصانع تبنيها الدولة التي كان شعارها مصنعا كل عشرة أيام، ومدرسة كل سبعة أيام، وكتابا كل ست ساعات. ومن ثم لم تكن هناك أزمة من أي نوع ونادرا ما يهتم أحد بالسياسة، ولا نعرف شيئا عن المعتقلات لليساريين أو غيرهم. حياتك الاجتماعية بين يديك تبنيها كما تشاء.
مع السبعينيات وسياسة السادات انفتح الباب لتدمير ذلك كله، والحديث فيه طويل.. لكن على الناحية الأخرى اتسعت الحياة في الفضاء الافتراضي، فصار الجميع يعرفون ما يحدث كل يوم، ويتحدثون عن كل الأزمات، وحين ينظر مثلي ويقرأ ما على الفضاء الافتراضي من أحداث يصيبه الحزن. يرى ذلك في الشباب حوله، ويندهش أن كل ما مضى انتهى إلى عكسه. إنه يعرف الأسباب التي أدت إلى ذلك، وعلى رأسها غياب الديمقراطية ووقوع البلاد في أسر الزعيم الأوحد وأفكاره. ويؤلمه كيف كانت الحياة أسهل والقاعدة أن تزداد سهولة. فالبشر تطورت وسائل انتقالهم مثلا من ركوب الحمير والخيل إلى ركوب الطائرات، لكن الحياة تدنت من الصعود إلى السماء بالطائرات إلى الامتثال إلى التخلف، بينما لا يملك البشر قدرة الحمير على عدم الغضب، وحين يغضب العجائز لا يكون أمامهم إلا الرجاء من الله بالرحيل. ما معنى أن يمرّ الزمن من وقت رأيت فيه أن خمسة قروش كانت تكفي غداء أو عشاء أو الذهاب إلى السينما، إلى زمن صارت الخمسة قروش خمسمئة جنيه لا تتوفر لكل أحد. ما معنى أن ترى زمنا كانت حادثة التحرش تصير حديث المدينة، إلى زمن صار التحرش فيه قاعدة. وما معنى أن تنفجر الدنيا يوما بأن هزيمة 1967 كان وراءها غياب الديمقراطية، لترى ثورة مثل يناير فتحت باب الأمل انتهت بعيدا عن الديمقراطية. العجائز أمثالي آلامهم مختلفة، وللأسف راسخة أكبر من آلام الحب الضائع.

 

*روائي مصري








كاريكاتير

إستطلاعات الرأي