روبرت شومان: موسيقى في حب كلارا

2022-01-14

روبرت شومان ـ كلارا ويكمروة صلاح متولي *

 

كانت كلارا ويك في التاسعة من عمرها عندما التقت للمرة الأولى بالموسيقي الألماني روبرت شومان، الذي كان في ذلك الوقت طالباً لم يتجاوز عامه الثامن عشر، يتلقى دروس البيانو على يد والدها، ولسنوات طويلة ظل قريباً منها بتردده الدائم على منزل العائلة، ثم تقدم لخطبتها بعد أن كبرت الطفلة وصارت في الثامنة عشرة، لكن الأب رفض زواجهما رفضاً قاطعاً، فافترق شومان عن حبيبته، وغادر لايبزيغ إلى فيينا ليحصل على درجة الدكتوراه، ويعمل مجتهداً على إظهار موهبته وتجليتها، ليثبت للأب والمعلم فريدريك ويك أنه الزوج الجدير بابنته عازفة البيانو الممتازة وصاحبة بعض المؤلفات الموسيقية، ويوجد الكثير من التفسيرات لهذا الرفض، منها أنه كمعلم يحب تلميذه كان يخشى على موهبته من الزواج، وأنه كان يريد لابنته زوجاً أفضل، تحقق فنياً بالفعل، وصار مستقبله واضحاً، وأنه كان يعد كلارا لمصير موسيقي عظيم، ويحلم بأن تكون مؤلفة مهمة، تضع اسمها إلى جوار عباقرة الموسيقى الكلاسيكية من الرجال، ومهما تعددت هذه التفسيرات وتباينت، كان الرفض واقعاً في النهاية وصعب المقاومة، لكن الحب كان أقوى من كل شيء.
وعلى الرغم من أن شومان كان متعدد العلاقات الغرامية بينما كانت كلارا لا تزال طفلة تلهو، وألف بعض القطع الموسيقية المستوحاة من هذه العلاقات، إلا أنه منذ أن خفق قلبه بحب هذه الفتاة افتتن بها، وانصرف إليها وحدها عن دونها من النساء، فكانت بحق امرأة حياته وموسيقاه، ينعكس حبها على قلبه فيرتد أنغاماً ساحرة، ويمكن القول إن هذه المؤلفة عزفت أعظم ألحانها على أوتار قلب شومان، ومن المفارقات أن إرنستين الخطيبة الأولى لشومان، التي ألف من وحيها مقطوعته المشهورة والمهمة «كرنفال» كان قد تعرف عليها في بيت فريدريك ويك أيضاً، حيث كانت تتلقى دروس البيانو مثله على يد هذا المعلم، وربما كانت كلارا الطفلة شاهدة على هذا الحب، الذي لم يدم طويلاً، وإلى جانب الكثير من المؤلفات الموسيقية التي استلهمها شومان من أمور أخرى، أبدع أجمل الألحان في حب كلارا حتى نهاية حياته الفنية.
في فيينا كان شومان وحيداً في بلد غريب، تبعده المسافات عن حبيبته، فأخذ يستقي أنغامه من ينبوع الحب والاشتياق، ومن أهم ما ألفه في تلك الفترة، مقطوعة للبيانو بعنوان «أرابيسك» وهو المصطلح الذي يشير إلى الزخرفة على الطراز العربي في الموسيقى الكلاسيكية، تُعزف هذه القطعة في سبع دقائق تقريباً، وتبدأ بالثيمة الرئيسية التي تُعزف لمرتين متتابعتين، وهي مكونة من جملة موسيقية تتكرر لأربع مرات بتنويعات بسيطة مختلفة، في هذه الجملة القلقة السريعة بعض الشيء يبدو شومان مضطرباً حائراً، بعدها يسير اللحن بشكل أهدأ كأنه اتجه إلى التفكير العميق المنظم، ثم يتجه إلى المزيد من الهدوء واللطف، وفي الجزء الأخير يكون حزيناً صاخباً وأكثر اضطراباً بتنويع على الثيمة الرئيسية أيضاً، التي ربما تعبر عن التوق والتلهف والمحاولات المتكررة للوصول إلى شيء ما، تترك هذه القطعة أثراً حزيناً في النفس، لكنها تظهر شاعرية شومان، وهو بلا شك من عظماء العصر الرومانتيكي ومن عباقرة الموسيقى الكلاسيكية بشكل عام، كما تعد «أرابيسك» مثالاً أو نموذجاً تعريفيا جيداً بهذا الفنان، لأنها قطعة للبيانو المنفرد، ولا تخفى مهارة شومان في التأليف للبيانو، ويرتبط جانب كبير من عظمته بهذه الآلة الموسيقية، على الرغم من أنه حرم من العزف عليها بسبب إصابة في أصابعه، تسبب هو فيها بالمبالغة القاسية في التدريب بشكل خاطئ، لأنه كان يريد أن يصبح عازفاً صنّاعاً لا مثيل له، لكنه في ما بعد صار يعتمد على كلارا العازفة البارعة، التي تتدفق موسيقاه وتسري في وجدانها، فيقوم هو بتأليف قطع البيانو وتتولى هي مهمة توصيلها إلى الجمهور الذي كان يستمع إلى ألحانه من خلال عزفها في العروض الأولى دائماً، كما توضح قطعة «أرابيسك» بعض سمات شومان الأسلوبية والوصفية، فكثيراً ما كان يهتم بالشكل الفني، أو بالجمال الشكلي، والعناية بدقة التعبير عن هذا الجمال الذي يغلب العاطفة أحياناً دون أن يلغيها، لكنه يركز على تحويل هذه العاطفة إلى شكل جمالي أكثر من التعبير عنها.


عاد شومان من فيينا بعد أن حصل على الدكتوراه، وحاول من جديد أن يقنع فريدريك ويك بالموافقة على زواجه من كلارا، لكنه أصر على الرفض، فتزوجها رغماً عنه، وأنجب منها ثمانية أبناء، وقاطعهما الأب لفترة ثم رق قلبه في النهاية وتقبل الأمر الواقع، عاش شومان مع كلارا في سعادة كاملة، وأنار الحب موسيقاه، قبل أن يتحول الحب والموسيقى وكل شيء إلى حياة تفيض بالآلام، ويهاجمه ذلك المرض النفسي الذي جعله يحاول الانتحار أكثر من مرة، وكان يسبب له طنيناً رهيباً في أذنيه يجعله يصرخ من عدم قدرته على تحمله، كما يُروى، لكنه ظل يؤلف الموسيقى وهو يتقلب بين نوبات هذا المرض الذي لم يرحمه.
وفي السيمفونية الثالثة المعروفة باسم Rheinische قام شومان بتوثيق لحظات السعادة والهناء التي عاشها مع كلارا بعد زواجهما وذهابهما في رحلة إلى راينلاند، وهي سيمفونية قصيرة يستغرق عزفها 35 دقيقة تقريباً، رغم أنها تتكون من خمس حركات لا أربع حركات فقط كما يجب أن تكون السيمفونية بشكل عام، وتتنوع الحركات في قوالبها الموسيقية، وفي تعبيرها عن مشاعر الحب والسعادة والإحساس بجمال الطبيعة، ويشعر المستمع بأن شومان يرسم صورة جميلة متناغمة دون أن يخوض في التفاصيل الدقيقة، فهو يصنع مسافة ما بينه وبين هذه الصورة من أجل حفظ هذا الجمال، ويظهر هذا الأسلوب في استخدامه للآلات الموسيقية، فيجعلها مجتمعة ومتداخلة دائماً، وإذا انفردت آلة أو مجموعة من الآلات، كالفلوت مثلاً أو الوتريات، فما هي إلا لحظات قليلة جداً حتى تتداخل معها أصوات الآلات الأخرى، وهذا يجعل المستمع يتلقى الموسيقى بصورتها الكلية، وأن تتوزع مشاعره على الآلات كافة، فلا يميل إلى واحدة دون أخرى، وأن يخضع لتلك المسافة التي صنعها شومان، وكأنه يريد أن يركز انتباه المتلقي على الجمال الفني، ولا يطمع في انغماسه العاطفي العميق.
لا وجود للأوركسترا الضخمة في هذه السيمفونية، فقد غاب ثنائي الهارب على سبيل المثال، كما استغنى شومان عن الكثير من الآلات الإيقاعية، واكتفى بالتيمباني فقط، وكان حضوره خافتاً إلى حد ما، واعتمد بشكل كبير على الهوائيات الخشبية (الفلوت، الكلارينيت، الأوبوا، الباصون) والهوائيات النحاسية (الترومبيت، الترومبون، البوق الفرنسي) والوتريات (الكمان، الفيولا، التشيللو، الكونترباص) وتبدأ الحركة الأولى سريعة بمشاركة الأوركسترا كاملة، بتداخلات صوتية بين الوتريات والهوائيات النحاسية والخشبية، يتخللها بعض اللحظات الهادئة، التي يخلقها الفلوت مع الأوبوا والكلارينيت والباصون، لكنها لحظات قصيرة خاطفة لا يسمح لها بالاسترسال، وفي الحركة الثانية يُسمع لحن جميل متوسط السرعة يوحي بالمرح، تتبادله الوتريات مع الهوائيات الخشبية، وبحضور ناعم للنحاسيات وتحديداً الترومبون والترومبيت، أما الحركة الثالثة فتكون بطيئة وأكثر هدوءاً، بأنغام الفلوت الرقيقة، وصوت الكلارينيت الدافئ، وانسيابية الوتريات الساحرة، وتبدو الحركة الرابعة مختلفة بشكل ظاهر، حيث تبدأ بالترومبون الذي يشارك الأوركسترا في ما يشعر المستمع بأنه محاولة لوصف درجة من الجمال الروحي، أو التجليات الإلهية على جمال الطبيعة، حيث يمتزج الشعور بالجمال مع الشعور بالرهبة، وقد يشعر البعض أيضاً بانها موسيقى دينية كنسية تشبه موسيقى باخ إلى حد ما، وتنتهي السيمفونية بالحركة الخامسة، وهي نهاية سريعة فيها المزيد من الحيوية، لكن بلا تصاعدات كبيرة أو ارتفاعات حادة، كما هو الحال في السيمفونية كلها.
في تلك الفترة القاسية أثناء بعده عن كلارا بدأ شومان يبدع أعماله الغنائية، من خلال اختيار بعض القصائد وتلحينها، وألف بعض الأغنيات المنفردة والمتتابعات الغنائية، تلك التي تحتوي على مجموعة من الأغاني المرتبطة ببعضها، وتؤدي الواحدة منها إلى الأخرى، وتعبيراً عن حبه لكلارا وعن يأسه أيضاً، وحزنه على هذا الحب الذي لا يستطيع أن يحيا ويزدهر، لحن شومان غرام شاعر A Poet’s Love وهي متتابعة غنائية مؤلفة للصوت المنفرد والبيانو، مدتها نصف ساعة، مكونة من 16 قصيدة قصيرة للشاعر الألماني هاينريش هاينه، مليئة بالخيال الحزين والمعاني الرومانسية الرقيقة، تؤدى بصوت الباريتون عادة، الذي يغني بلسان شاعر يروي قصة غرامه، بداية من لحظة البوح للحبيبة بأسرار قلبه، حتى تحضيره لتابوت كبير يتسع لكل حبه، لكي يدفنه أو يغرقه في أعماق البحر، وتتنوع الأغنيات من حيث الطول والإيقاع والبطء والسرعة وطريقة الغناء، كما يحتوي هذا العمل على ثيمة كلارا، حيث يعزف شومان حروف اسمها بما يقابله من الحروف الموسيقية على أصابع البيانو، ومن أجمل أغنيات هذه المتتابعة الأغنية الرابعة، التي تصف حال الشاعر وآلامه التي تزول بالنظر إلى عيني حبيبته، والتئامه عندما يقبلها، وشعوره بفرحة سماوية عندما يستريح على صدرها، ودموعه التي تسيل عندما تقول له: أحبك.


ومن المتتابعات الغنائية الأخرى التي أبدعها شومان، واحدة بعنوان حب وحياة امرأة A Woman’s Love and Life وتمتد لعشرين دقيقة تقريباً، تُغنى بصوت الميتزو سوبرانو، وتتكون من 8 قصائد للشاعر الألماني آدلبرت فون شاميسو، اختارها شومان للتعبير عن مشاعر كلارا هذه المرة، وربما كان تنبؤاً أو اتباعاً لإحساس خفي بأنه سوف يموت ويتركها، وأن كلارا سوف تفقد حب حياتها، وهو ما تحقق بالفعل في ما بعد، تروي هذه المتتابعة من خلال الغناء المصاحب للبيانو مراحل الحب الذي عاشته امرأة عاشقة، منذ أن رأت رجلها للمرة الأولى وانبهرت به وصارت لا ترى أحداً سواه ولا تبصر أي شيء آخر، إلى أن آلمها وسبب لها الحزن للمرة الأولى والأخيرة أيضاً، عندما مات وفقدت حبها وسعادتها وعالمها بأكمله، وبين البداية والنهاية يوجد الكثير من التغزل في هذا الرجل ولطفه ووسامته ورجاحة عقله، وسعادة الفتاة الصغيرة بالخطوبة وتقبيل الخاتم الذهبي وضمه إلى قلبها، وبهجة التحضير ليوم الزفاف، وتبدو المشاعر في هذه الأغنيات شرقية إلى حد كبير، حيث تمجد المرأة الرجل إلى حد التقديس أحياناً، ويذوب كيانها في وجوده، وتشعر بأنها لا حياة لها من غيره، ومن أجمل أغنيات هذا العمل الأغنية الأخيرة رغم حزنها الشديد، الذي يشعر المستمع بأن شومان يرثي نفسه موسيقياً ويشفق على كلارا التي ستقضي بقية عمرها وحيدة في حزن عميق، تعمل كعازفة بيانو من أجل أن تعيل أولادها الثمانية، ولن تعشق غيره ولن تتزوج أبداً من بعده، وإن أحبها الموسيقي الألماني يوهان برامز وطلبها للزواج، وألف في حبها بعض القطع الموسيقية أيضاً، وقد كان شومان صديقاً وأستاذاً لبرامز، يدعم موهبته ويبشره بمستقبل موسيقي باهر.
قبل نهاية حياته الموسيقية، تدهورت حالة شومان النفسية كثيراً، وتكررت محاولات الانتحار، ورغم مرضه الشديد في ذلك الوقت، أبدع عملاً فريداً بعنوان Three Romances وهي قطعة موسيقية للأوبوا والبيانو تُعزف في 12 دقيقة، وتعد من أفضل القطع التي تم تأليفها للأوبرا المنفردة، حيث تكون الصدارة لهذه الآلة المرهفة الحس، ويأتي البيانو في الخلفية، للعب الألحان المقابلة أو المضادة، ولخلق حوار ما والتفاعل مع الأوبوا والرد على ما تقوله، قدم شومان هذه القطعة إلى كلارا كهدية الكريسماس، وربما كانت آخر ما قدمه إليها من هدايا، لأنه بعد ذلك حاول الانتحار وألقى بنفسه في نهر الراين، وكاد أن يغرق، لكن تم إنقاذه، واضطرت كلارا حينها أن تدخله إلى مصحة نفسية من أجل الحفاظ على حياته، قضى شومان ما تبقى من عمره القصير داخل هذه المصحة، وفي يوم حزين ذهبت كلارا لتطمئن عليه وتبقى بقربه قليلاً، فتوفي بين يديها الرفيقتين.

*كاتبة مصرية







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي