
سليمان الحقيوي*
في فيلمه الجديد «كانت يد الله» (2021) ينظمّ المخرج الإيطالي باولو سورينتينو (1970) لمجموعة مُخرجين عظام اختاروا تحرير جزء من ذاكرتهم عبر أفلام سيرة نجحت إلى حد كبير في الكتابة البصرية لذكرياتهم، لكن عبر رهان الإخلاص لأساليبهم المعروفة، بدأً بمعلمه الكبير فيديريكو فيليني في فيلم «أماركورد» 1973، وبِيدرو ألمادُوفار في «ألم ومجد» (2019) وألفونسو كوارون في روما (2018).. وهذه الاستعدادات جميعها جاءت بعد تجاوزهم للعقد الخامس، وكأن هناك قانون بوح يسري بعد هذا العقد، ويدفع نحو فتح ذاكرة الزمان والمكان والشخصيات. والمخرج هنا يختار العودة إلى ذكريات مراهقته، يعود إلى حدث وشم تاريخ مدينته نابولي، عندما عاشت حلم قدوم مارادونا.
لا يمكن فهم علاقة سكان مدينة نابولي بمارادونا، إلا بالذهاب هناك، حيث يعيش الجميع على ذكريات لاعب جعل تاريخ المدينة المعاصر يبدأ منذ قدومه، مارادونا أنقد نابولي؛ جعل سكانها يشعرون بأنّهم استثنائيون طيلة السنوات التي قضاها فيها، في وقت كانت المدينة تعاني من كارثة زلزال الثمانينيات، ومن الشرخ الاقتصادي الكبير بين الشمال والجنوب، قدومه أنعش اقتصاد المدينة وأنقدها من كساد كبير.
سورينتينو نفسه لم يفوّت فرصةً للتعبير عن هذا العشق، ففي خطاب فوزه بجائزة الأوسكار قال: «شكرا لمصادر إلهامي؛ فيديكو فيليني، مارتن سكورسيزي، ديغو أرماندو مارادونا شكرا لروما ولنابولي». مارادونا ساعتها ردّ عليه بكلمة عاطفية تعكس وقع الالتفاتة على قلبه، أن يذكر اسمه في أهم مسرح في أمريكا، التي حلم أن يرفع على أرضها كأس العالم، فانتهى حلمه بمؤامرة ضده. لاحقا سيظهر ماردونا في فيلمه «شباب» عندما جعله من بين شخصيات كثيرة تقطن الفندق نفسه من أجل الاستشفاء، لم يفته أن يُظهر عبقرية دييغو في مداعبة كرة تنس، النقاش كان محتدما في وسائل الإعلام حول الأفضل، مارادونا أم مواطنه ميسي، هذا الاستحضار أشار من بعيد إلى أن مارادونا بوزنه الكبير وحالته الصحية يفعل بكرة تنس ما لا يفعله اللاعبون بالكرة. سورينتينو كأي نابوليتانو، قد يترك عملا مهما كي يشاهد لقاء لفريق نابولي، كي يشاهد مارادونا يلعب. وهذا بالضبط سبب نجاته!
لذلك تتوزع القصص عن مارادونا في كل شبر من المدينة، كلّ فرد في نابولي يحمل قصّة، يستطيع من عاش حقبة مارادونا أن يخبرك بالتفصيل عن توقيت كلّ هدف من أهدافه الـ115، وتمريراته، والمكان الذي وجد به وكيفه احتفاله. وقصّة سورينتينو من بين قصص كثيرة، لكنها قد تكون الأعمق، لأنها ارتبطت بحلم خلقته كارثة، فعندما اشترت عائلته شاليها صغيرا في منتجع روكاراسو، الذي يبعد ساعتين عن نابولي، وبينما كان والداه يقضيان نهاية الأسبوع هناك يفارقان الحياة بسبب تسرب الغاز لتنتهي أمسيتهما الدافئة بكارثة، كان فابيتو يشاهد مباراة لفريق نابولي، كان يشاهد مارادونا… ولولا هذا الحدث للقي فابيتو المصير نفسه، لو لم ينتقل لمشاهدة الفريق وبإصرار منه أيضا، هذا الحدث جعل أحد أفراد عائلته «العم ألفريدو» يربطه مباشرة بعناية مارادونا كانت يد الله، قال.
لماذا لم تتواجد في روكاراسو أنت تحب التزلّج؟
نابولي كان يلعب، كان عليّ أن أشاهد مارادونا
لقد كان هو.. من أنقدك.. لقد كانت يد الله، الجملة الأخيرة قالها ألفريدو وهو يقبّل جبين فابيتو مثل قدّيس، وهي الجملة التي ارتبطت بوصف مارادونا لهدفه على منتخب إنكلترا، القليل من رأس مارادونا والقليل من يد الله.
دون هذا الحدث المؤلم لما وجد فابيتو طريقه نحو صناعة الأفلام، فاهتمامه بالسينما لم يكن يتعدى تكرار مشاهدة فيلم «حدث ذات يوم في أمريكا» بينما كان هيامه بجسد الخالة باتريشيا، يغنيه عن التفكير بالجنس، فجأة بعد صدمة الوفاة أصبح التفكير في المستقبل جديا، وبتوجيه من الناقد (الواقعي) أنطونيو كابوانو تلمّس طريقه نحو السينما. في أحد أجمل مشاهد الفيلم، يقحمنا المخرج في حوار مسرحي، بين فابيتو وكابوانو داخل بناية مهجورة مطلّة على خليج نابولي، يلخص كابوانو السينما في الألم والجرأة، يصمت الشاب كثيرا أمام توجيهات كابوانو، لكنه صرخ في النهاية بأن حكايته بدأت عندما منعوه من توديع والديه بعد وفاتهما. كابوانو أيضا يمقت من يذهبون إلى روما لصناعة الأفلام، يقول له هنا توجد مئات القصص. ولعل الكثير من منجز سورينتينو يسير في ظل هذه الوصايا، فأفلامه فيها من الجرأة الكثير وكلها تعتصر الألم، وها هو يعود إلى نابولي ليصنع فيلما جميلا.
يبدأ الفيلم بلقطة طويلة، لخليج نابولي، يستمر الاقتراب من المدينة ثم تصاحب الكاميرا سيارة عتيقة، من هذه الزاوية تبدو نابولي ساحرة…إنه احتضان المخرج لمدينته، لا ينسى في هذه اللقطة الأثيرة أن تلتفت الكاميرا إلى المكان الذي سيحتضن نقاشه المهم مع كابوانو حول السينما. وفي المشهد الموالي سيعود إلى السيارة العتيقة التي ستتوقّف عند طابور أغلبه نساء ينتظرن الحافلة، أجملهن الخالة باتريشيا، ولأن المخرج يحب أن يقحم النساء في مآزق كبيرة في أفلامه، فقد عرض صاحب السيارة، الذي ادعى أنه القديس جينارو على الخالة باتريشيا توصيلها، وفي الطريق سيساعدها كي تنجب طفلا، وهو الاقتراح الذي لم تقاومه، المشهد الموالي الذي يختلط فيه الخيال بالواقع، يخلق منه الفيلم لحظة جمال فريدة، وأيضا نقدا لاذعا لسيطرة المعتقدات الدينية الفولكلورية على ذهنية السكان في تلك الفترة.
فيلمه/السيريُّ مليء بالحنين والعلاقة مع المكان والزمان والكثير من العزلة مثل باقي أفلامه، دائما هناك فائض من العزلة تكافح الشخصيات لتصريفه في لقاءات واجتماعات وحوارات، لكن الشخصية هنا لم تختبر الحياة بعد، ولم تتشكل رؤيتها للعالم. يكتفي فابيتو بارتداء جهاز الاستماع للموسيقى أينما وجد، هذا كاف لتفسير حجم العزلة التي يعيشها، بينما تعيش باقي شخصيات الفيلم عزلتها، وعندما تلتقي تؤثر الثرثرة والذهاب في الحوارات إلى آخرها، والفيلم هنا ليس حالة متفردة، بل هو أسلوب يحرص عليه سورينتينو، الثرثرة حول كل المواضيع وحس الدعابة والحفاظ على رابط الأسرة، رغم انكسار بعض العلاقات، فالاجتماعات وقضاء العطل عادات لا يمكن تفويتها. وخوض حوارات حول الهوية والثقافة والجنس… ودائما هناك شيوعي من بين الشخصيات. يختار المخرج أيضا توني سيرفيلو، أعظم وجوه السينما الإيطالية اليوم، تتغير أدواره في أفلام سورينتينو، لكنه يجد لحظات العظمة دائما، مفاتيح شخصياته تنطلق من فهمه العميق للحياة الإيطالية وتغيراتها، أمّا الشاب فيليبو سكوتي فقد وجد على يد توجيهات سورينتينو الطريق نحو عمق شخصية تعيش زمنا خاص، شخصية لم تكن تفكّر في شيء، وفجأة دفعتها الظروف للتفكير بإلحاح في أمور تفوق عمرها.
في الفيلم، ذكريات وعرفان وتكريم لمشاعر، أمكنة وأزمنة، هو الفيلم الأكثر حميمية بالنسبة للمخرج، هنا أيضا يوجّه تحية كبيرة لفيديركو فيليني وتحديدا لفيلم «أماركورد» 1973، بعدما وجّه تحية له في «الجمال العظيم» (2013) لكلّ السينما الإيطالية التي يعتبر أحد أهم أسمائها، لكن هذه التقاطعات تحمل معنى التجديد دائما ومحاولة التعبير البصري الأمثل عن الواقع، كاستمرار أبدي للواقعية الإيطالية على يد مخرج بارع، أفلامه تمثل يقظة الفيلم الأوروبي وقلقه وحيرته، تفصح أيضا عن الورطة التي يعيشها الفرد الإيطالي؛ هو مثل كوانتين تارنتينو لا يخشى أن يشار إلى أفلامه على أنها ضد المرأة، أو أن يحرص في كل فيلم على الاحتفاء بالجسد وتحريره.
*كاتب وناقد سينمائي مغربي