مسلسل «المستعمرة»… الوكلاء المحليون ومبادئ الهيمنة

2022-01-03

 رامي أبو شهاب*

 

تكمن قيمة المتخيل أحياناً في قدرته على توصيف الواقع، بصورة ربما تتفوق على الواقع عينه، من مبدأ قدرة المتخيل أو الفن على تجاوز إكراهات النموذج البراغماتي، والتعلل بالحيثيات، فالمتخيل هو صورة منفلتة من الإكراهات الواقعية ذات النظم القائمة على التبرير، وعلى ما يبدو فإن الخيال العلمي بات من أشد الوسائل التي تتيح للمخرجين تجاوز الأنماط أو التشكيلات التقليدية في تقديم الأفكار، ولا سيما مع تصاعد الاستهلاك الناتج عن المنافسة الرأسمالية، فضلاً عن الإمكانيات التي يتيحها الخيال العلمي لإضافة شيء من الجاذبية على الفرجة التي باتت تتطلب إمكانيات هائلة، بغية المحافظة على شغف المشاهدين، ولا يمكن أن ننفي الحرص على تغذية الجانب الفكري، أو الإشكالي تجاه قضية ما… بما في ذلك الحرص على القيم الجمالية القائمة على التكوين البصري، من خلال قدرة بعض المخرجين على تحقيق المتعة؛ موظفين المزج بين عمق الفكرة، وثورية الشكل، ما يخرج إلى صيغة أكثر فاعلية، وهنا لا يمكن أن نقرأ توظيف الخيال العلمي ضمن المنظور المتعارف عليه في أدبيات دراما الخيال العلمي، فبعض الأعمال لا تنهض على محورية الخيال بوصفه ثيمة، بمقدار ما يسارع إلى توظيفه ضمن سياقات واقعية ودرامية، ومن هنا، فإن تصنيف الخيالي بالنسبة إلى باري كيث جرانت، يبدو معياراً هشاً، ذلك أن الخيال قد يغدو أسلوباً أو معالجة لا نمطاً أو تصنيفاً معيناً.

من الإنتاجات التي فرضت حضوراً متميزاً المسلسل الأمريكي (المستعمرة) Colony الذي بث من عام 2014 إلى 2018 في ثلاثة أجزاء، وجاء من إعداد وإخراج كالوتون كوز ورايان جاي، ومن بطولة جوشو هولواي (أحد أبطال مسلسل الضياع) بالتجاور مع الممثلة سارة وين كوليز. وعلى الرغم من أن المسلسل بدا في صيغته الأولية قائماً على ثيمة متعالية من ناحية المتخيل والابتكار، لكنه في الحقيقة لا يعتمد مبدأ الإغراق بالخيال العلمي، بغية التغريب أو الإبهار، لكنه يوظف هذا الأسلوب من أجل تجسيد نموذج خطابي يمكن تنزيله على فكرة محددة، ونعني (الاحتلال) أو الاستعمار.

الاستعمار الكوني

تتأسس حبكة المسلسل على فضاء مكاني يتحدد بمستعمرة «لوس أنجوس» التي تعد قطاعاً مستعمراً شانها شان باقي الكرة الأرضية، غير أن المستعمِر يتحدد بكائنات فضائية غير محددة الماهية، في حين يشار إلى أن هؤلاء المستعمِرين لا يظهرون في المسلسل إنما تتبدى آثارهم عبر فاعلية الهيمنة، أو بوصفهم فكرة لا كياناً، فالاحتلال (حقيقة) يمارس على الأرض من قبل ما يسمى بالهيئة الانتقالية (سكان الأرض) بالنيابة عن المستعمرين الفضائيين، ويمكن أن نطلق على هذه الإدارة مصطلح الوكلاء المحليين ضمن مفهوم ما يعرف بالحكم الذاتي، وهم عبارة عن إدارات بشرية عينهم المستعمِرون أو (المضيفون) – كما يطلق عليهم- لإدارة شؤون الأرض، في حين يوجد على الطرف الآخر المقاومة التي تتعدد أشكالها، وكياناتها، والأهم فلسفتها تجاه عملية المقاومة.

ضمن ثنايا هذه الحبكة ثمة تأطير مصغر يتعلق بعائلة (ويل باومان وزوجته كيتي وثلاثة أطفال) يسعون إلى المحافظة على وجود العائلة، في ظل التهديد الطارئ، ولاسيما مع شيوع حالة الفوضى، ونقص الغذاء والدواء، وهنا نرى ذلك التمايز في كيفية تفسير المقاومة وشكلها، حيث يضطر الزوج للعمل مع الاحتلال من الداخل بوصفه شرطياً سابقاً من أجل الحصول على معلومات لاستعادة ابنه الذي فقده مع بداية الغزو، في حين أن الزوجة تعمل مع المقاومة بصورة مباشرة لتتقاطع بعد ذلك مواقف واتجاهات الزوجين، فحيناً تتوافق، وفي أحيان أخرى تتعارض، غير أنّ المبدأ العام الذي يحكمها رفض الاحتلال، الذي يهدد الهوية الثقافية والوجودية للإنسان.

التواطؤ والمقاومة

تتجلى صورة المقاومة بنماذج مختلفة بوصفها ظاهرة متنازع على تفسيرها أو ماهيتها، فثمة من يلجأ إلى العنف، وهناك من يقاوم بصورة سلمية، وهناك من يقاوم بشكل ذكي، تمهيداً لتحقيق المقاومة الشاملة والمسلحة، كما هو حاكم إحدى المستعمرات النموذجية الذي يتواطأ ظاهرياً مع الاحتلال، لكنه يعمل في الخفاء على تجهيز مقاومة مسلحة مدربة عندما يحين الوقت المناسب، مع الإشارة إلى أن هذا الحاكم كان عالماً عبقرياً، بيد أن مهمته تُكشف، فتسعى الهيئة الانتقالية إلى تصفيته… وبين ثنايا هذه الأحداث نتوقف عند حوار مع المديرة ومساعدها «سنايدر» حيث ينطوي على عبارات تكشف الكثير عن آليات الممارسة الاستعمارية، ولاسيما حين يوجه الحاكم سؤالاً لهذين المتواطئين عن أسباب اختيارهما للإدارة من قبل المحتلين، لكنه سرعان ما يعلل ذلك بأن المستعمرين يختارون فقط الأشخاص الأكثر فشلاً، من أجل تنفيذ أجندة المحتل، فالمسؤولة الأولى كانت قبل الغزو مديرة استديو فاشلة، في حين أن نائبها كان مديراً لشركة صغيرة، لكن ما يوحد بين هذين المسؤولين الحس الوصولي، كما التعطش للسلطة، ولاسيما بعد أن منحهم الاحتلال القوة، كما القدرة على التحكم، فباتا أشد بطشاً، مع قدرة غير مسبوقة على ممارسة السياسية القذرة عبر الإطاحة بالخصوم، والتنافس بين الإدارات من أجل نيل رضى المُحتل.

إن الوجه الأكثر وضوحا للمقاومة يتمثل بشخصية «بروسارد» (الجندي السابق) الذي يختزل فكرة المقاومة، وفلسفتها عبر عدم قبول أي محاولات للتسوية، وهو نموذج للتضحية، غير أن مصيره يتقاطع مع مصير العائلة في الكثير من المواقف، فهو من قام بتجنيد الزوجة «كيتي» لتصبح إحدى أهم الأسماء المطلوبة للهيئة الانتقالية، بالتجاور مع زوجها، بعد أن ينكشف تعاونهما معاً لتقويض سلطة الهيئة الانتقالية.

البنى العميقة للهيمنة: المظاهر والآليات

ضمن المبادئ العامة لتفسير ظاهرة الاحتلال، نستطيع أن نقع على عدد من المظاهر التي تشكل بنية عميقة لكل شكل من أشكال الاحتلال، بموازاة وجود المقاومة، وهنا نضطر إلى استدعاء بعض تنظيرات محللي خطاب ما بعد الاستعمار، ولاسيما فرانز فانون، الذي أكد على عوامل العنف، وشرعيتها كما في كتابه «معذبو الأرض» لكن فانون يتقاطع مع الكثير من التحليلات التي تتصل بفضاء الجغرافيا الاستعمارية، وهنا نستدعي عددا من الآليات التي تتماثل في أي نموذج استعماري، فالمسلسل يعتمد فكرة الوكلاء الاستعماريين، الذين ينفذون ببطش سياسة الاستعمار باعتبارهم الأداة، كما وضحنا سابقاً، غير أن الفكرة تتحدد هنا بأن الهزيمة أمست هزيمة نفسية، حيث الخوف من الفضائيين نتيجة سيطرة فكرة عدم القدرة على هزيمتهم، نظراً لتفوقهم عسكرياً، وهي الفلسفة التي آمن بها المنهزمون من سكان الأرض، ولهذا نرى أن بطش الهيئة الانتقالية من بني البشر تجاه أبناء جلدتهم يبدو عنيفاً جداً.

 في حين تتحدد بعض مظاهر الهيمنة التي تتماثل مع بنى الاستعمار أينما كان، ومن ذلك قيام الفضائيين ببناء جدران عملاقة للفصل بين القطاعات أو المدن، وبذلك فهم يسعون إلى جعل الكرة الأرضية جزراً معزولة، وهي سياسة استعمارية نراها ماثلة في ممارسة الكيان الصهيوني في فلسطين، وهذا يتجاور مع مشاهد الاحتجاجات والرسوم على الجدران لتبدو شبيهة بواقع تفتيت الأرض الفلسطينية، كما تبرز أيضاً الحواجز الكثيرة، والجنود المقنعون المدججون بالأسلحة، وهم يفتشون السكان، ويتعقبون المقاومين أو المخربين (من وجهة نظرهم) غير أن الملاحظ تشكّل بؤر مقاومة من المراهقين والأطفال، وهنا تبرز فكرة التنسيق بين المستعمِر الفضائي والقوى الحاكمة على الأرض من بني البشر، والدلالة المركزية هنا تتمحور حول إيمان القادة بأن العمل مع المحتل سيجنب البشر الفناء، لكنهم في الحقيقية يبحثون عن مصالحهم الخاصة، عبر مراكمة النفوذ والسلطة، والامتيازات التي ينالونها بسبب التعاون مع المحتلين.

ومن السمات التي تميز الظاهرة النسقية الثقافية للمسلسل، لجوء الفضائيين لسلب الرموز والأعمال الحضارية للإنسان من لوحات وفنون، وغير ذلك. إنه فعل استلاب ممنهج لقيم الثقافة، لكن ثمة ما هو أعمق من ذلك حيث يشكل بنية شديدة التعقيد في قراءة المسلسل.

هكذا تتبدى فضاءات الاستعمار بوصفها نموذجاً بنيوياً يرتحل أينما كان، وهو ما يحاول المسلسل تأكيده عبر جعل الأرض مستعمرة كبرى، وهنا تبدو الصور معكوسة، فسابقاً كان البشر يستعمرون بعضهم بعضاً، لكن كيف سيكون الحال حين تكون القوة غازية من الخارج أو الفضاء؟ ما يعني الكشف عن النموذج العام أو البنية العميقة لهشاشة النموذج الأخلاقي عند بعض البشر، ومن هنا يمكن أن نتوافق على تحليل هذا العمل، بوصفه يتصل بمبادئ النزعة الاستعمارية التي تحيل إلى تكوين سياسي واقتصادي واجتماعي، يتضمن غزو مناطق أجنبية، والسيطرة عليها بواسطة قوى خارجية كما تذكر أدبيات الاستعمار، غير أن المسلسل يعمق فكرة التبعية بواسطة الوكلاء المحليين، وبذلك فإن المعادلة الفنية للاستعمار سينمائياً أو درامياً، تطورت بأشواط طويلة، حيث كانت تقوم في البداية على التمثيل الإثنوغرافي، والرحلات للذوات المستعمَرة، لتصل في النهاية إلى قراءة الاستعمار ضمن وضع متقدم ليشمل الوجود البشري برمته.

ومن السمات التي تميز الظاهرة النسقية الثقافية للمسلسل، لجوء الفضائيين لسلب الرموز والأعمال الحضارية للإنسان من لوحات وفنون، وغير ذلك. إنه فعل استلاب ممنهج لقيم الثقافة، لكن ثمة ما هو أعمق من ذلك حيث يشكل بنية شديدة التعقيد في قراءة المسلسل، ولاسيما حين تتكشف الأمور عند وجود قوى أخرى فضائية تخوض حرباً مع الغزاة الفضائيين، الذين استعمروا الأرض، وهنا تتولد قناعات لدى سكان الأرض، غرزها الغزاة الفضائيون في العقول، وقوامها أن على سكان الأرض التعاون مع المستعمرين الفضائيين، لأن ذلك سيجنبهم خطر التهديد أو الفناء من قبل كائنات أو قوى أخرى، وهنا نلاحظ أن أحد أهم السمات التي ميزت المستعمِر طرح ذاته بوصفه أداة للدفاع ضد قوى خارجية أخرى، وهنا ينقسم سكان الأرض بين مؤمن بهذه الفكرة، وفريق آخر يرى أن على سكان الأرض التعاون مع الجهة الثالثة من مبدأ أن عدو عدوي صديقي، وهنا نلمح الاقتتال بين فصائل المقاومة، نتيجة اللعب على التناقضات في ما بينهم من قبل الهيئة الانتقالية، فلا جرم أن يظهر فصيل يرفض المخطط الحقيقي للغزاة الفضائيين القائم على تجنيد سكان الأرض، خاصة من المحاربين الأقوياء ليخوضوا الحرب ضد القوى الأخرى، أي أن الاستعمار يستغل سكان الأرض ليكونوا جنوداً أو دروعاً للتضحية، وهذا يماثل بعض ممارسات التاريخ الاستعماري الذي شاع عبر حقب تاريخية، حيث فرضت القوى الغربية أو الإمبراطوريات هيمنتها بوصفها حامية للمستعمرات ضد قوى أخرى، فتلجأ إلى تجنيد أبناء المناطق المحكومة لخوض حروبها، كما فعلت إنكلترا وفرنسا في الحرب العالمية الثانية، وهكذا يضعنا المسلسل ضمن رؤية يمكن أن تنسحب على الكثير من الوقائع بين الحاضر والماضي، كما يضعنا أمام بينة عميقة للاستعمار، وآليات التواطؤ معه.

 

*كاتب أردني فلسطيني

 









شخصية العام

كاريكاتير

إستطلاعات الرأي