الطريق إلى الزعامة في رواية «الرجيف» للأردني حكمت النوايسة

2021-12-06

موسى إبراهيم أبو رياش

كل كتابة هي موقف ورأي، ولا توجد حيادية في الكتابة والإبداع، وإن وجدت فهي تعبير عن موقف هلامي مائع لا قيمة له، زبد يذهب جفاء، وهو في الغالب انحياز للقبح والظلم والفساد والرداءة. والقارئ لرواية «الرجيف» للأردني الدكتور حكمت النوايسة يلمس أنها رواية تعبر عن فكر وموقف ورؤية، وتبث رسائل إلى الاتجاهات والموجات كافة؛ تلميحا وتصريحا. توسلت بالخيال والرمز لتنسج حكاية العرب في زمن ما، في مكان، بعضه معروف وواسطة العقد فيه متخيل.

كان لافتا في الرواية الزعامة الساطعة لسفيان العراقي من أهل السماوة في الرجيف، وزعامة أمه ليلى في بادية السماوة، وزعامة الرجيف على ما حولها، وقوتها وأحلافها الممتدة. ولم تأت هذه الزعامات من فراغ؛ بل كانت لها خريطة طريق، وعمل دؤوب، وطموح بلا حدود، بالإضافة إلى أسباب وعوامل ساعدت ومهدت لها.

استعانت ليلى بالساحرة لتحظى بغيهب زوجا لها، وتقصي غريمتها وصاحبتها لبنى في ليلة العرس، وتوسلت بالكيد والتدبير لتقنع غيهب بخيانة لبنى وأنها لا تليق به، فكان لها ما أرادت، ولما علم غيهب ذلك في ما بعد، هجرها وفرّ هاربا، وسرح فرسه لتعود إلى السماوة علامة على موته، ولعله لم يفر لأنها حظيت به وكادت لغريمتها، وكان أولى به أن يفرح ويتيه عُجبا أن تتصارع عليه الجميلات، لكنه فرّ لسطوتها وخبثها وذكائها المخيف، وأنه لن يستطيع لها شكما، وأنجبت سفيان نسخة منها؛ ذكاء وفطنة وتدبيرا وبصيرة.

علا صيت ليلى عندما تناقلت الركبان قصة ابنها سفيان في الرجيف، وصداقته لزعيمها، ورفضها أن تنضم إليه، مفضلة أن تكون أم سفيان في السماوة، ولها ما لها من الحظوة والاحترام، على أن تكون في الرجيف ظلا لسفيان، تعيش تحت جناحه، تابعة له. وعندما حدث شجار أدى إلى شج رأس أحد رجال السماوة وإذلاله، أشارت بالرأي الحكيم، ليحفظ لهم كرامتهم وعلو شأنهم، فحدث ما توقعت، وارتفعت أسهمها إلى السماء، وأصبحت زعيمة للسماوة، لها مجلسها وهيبتها وحظوتها، فكانت نجمة السماوة، كما ابنها نجم الرجيف.

اللافت في حكاية ليلى أن الناس تناسوا كيدها وتآمرها على لبنى لتحظى بغيهب زوجا، وتوجوها زعيمة تستشار في عظائم أمور السماوة، وتناقلوا قصصها وأحاديثها، وربما أضافوا إليها من عندياتهم، كما يحدث دائما، فأصبحت رمزا مبرأة من كل عيب ونقيصة.

زعامة سفيان لم تأت من فراغ، فهو ابن ليلى ومرآتها، فورث عنها أجمل وأفضل ما فيها وزيادة، فبرع واشتهر من صغره، وتبوأ الصدارة فتى؛ يوم أشار على وفد السماوة، أثناء توجههم إلى الرجيف بضرورة مواصلة المسير، على الرغم من التحذير من خديعة القوم، فجنب قومه العار وسوء السمعة، وكسب الحكمة وسداد الرأي، ومن ثم الحظوة عند زعيم الرجيف فاستأثر به وقربه، والمفارقة غير المسبوقة أن قومه انتسبوا إليه وعرفوا «بالسفيانيين» وهو نفسه اشتهر بسفيان السفياني. لم تكن الرجيف كالسماوة، فقد كانت مدينة مشيدة محصنة، لها أسواقها وحدائقها ومرافقها الكثيرة، بينما كانت السماوة خياما بسيطة في بادية ممتدة، فحرص سفيان أن يتعرف إلى الرجيف، فتجول في أرجائها كافة، واكتشف خفاياها، وتعرف على ما يجري فيها من معاملات وعلاقات وتوازنات، وما تعانيه من مشكلات، فعرفها أكثر مما يعرفها أهلها، وفي مجلس النخبة كان لا يتكلم إلا آخر القوم، يستمع جيدا، ويمحص الآراء، فإذا نطق أخيرا أدهش، وحاز رأيه على إعجاب القوم، فقد كان أصغرهم لكنه أحكمهم وأبعدهم نظرا.

أهم ما ركزت عليه رواية «الرجيف» هو كتابة القصة، وأن يكون لكل قصته يكتبها ويفرضها، لا أن يتركها للغير يروونها كما يشاؤون، فالقوي عقلا وفكرا وجسما هو الذي يكتب قصته ويترك للآخرين روايتها وتناقلها وملء الفراغات فيها بما يشاؤون، لكنها فراغات مقصودة تزيد من جمال القصة وإثارتها وتشويقها وتوابلها.

وتقدم سفيان خطوة إلى الأمام عندما اقترح التخصص في أعضاء مجلس النخبة، ليصدر الرأي دقيقا مبنيا على علم ودراية، وكان يختار الأقرب إليه، ولما حانت الفرصة التي جاءت أسرع مما توقع، اختاره القوم زعيما برضى صديقه الزعيم، فتنسم الزعامة، وتمسك بصداقة الزعيم بقربه، ليحظى بالإعجاب مضاعفا، فدانت له الرجيف، وتناقلت الركبان والقواقل سيرته وقصصه وأقواله. ويبدو أن زعامة سفيان كانت قمة الزعامة في الرجيف، وكان قلقا على من سيخلفه، فأشار عليه المستشار أن يدعي الموت ليعرف كيف يتصرف مجلس النخبة، وبعد جدال وخصام وشد جذب، ورفض لكل المرشحين الأكفاء، أجمع القوم على شخص نكرة لا يصلح لشيء، لكنه سهل القياد والتوجيه، وإذا أجمع وجوه القوم على أحد، فأعلم أنه امتطاهم جميعا، أو أنه يصلح مطية لهم.

تشكلت قوة الرجيف من اتحاد الضعفاء والمتروكين من أقوامهم، فأصبحت قوة كبيرة، فرضت سطوتها على ما حولها من خلال الأحلاف، حتى وصلت إلى السماوة في الشرق؛ فقد قرأ هؤلاء الضعفاء ما حولهم جيدا، فصنعوا شيئا مختلفا لا عهد للقبائل من حولهم به، فبنوا البيوت، وأقاموا الأسواق والحدائق، وسنوا القوانين، وجعلوا لهم نظاما سياسيا خاصا بهم، فأصبحت الرجيف محجا للقبائل، وسوقهم المركزي، وواسطة عقدهم، يُخطب ودها، ويطلب حلفها، ويُسمع رأيها، وتحترم كلمتها، تقود ولا تقاد، تعلو ولا يعلى عليها.

الضعف قوة خطيرة عندما يوظف جيدا، وضعف الجسد قوة إذا كان الدماغ سليما والقلب بصيرا، والتدبير حكيما، وهكذا الرجيف نهضت كالعنقاء من رماد الضعف، باسطة أجنحتها القوية على ما حولها، لا لتحاسبهم على جريرة تخليهم عن الضعفاء والمرضى، بل لتؤكد لهم أنهم جلبوا ذلك لأنفسهم، وأنهم قاصرو النظر، وأن الترك والتخلي جريمة، عاقبتها السيطرة والاستحواذ والتذلل والاستعطاف والحسرة والندم لا مناص.

أهم ما ركزت عليه رواية «الرجيف» هو كتابة القصة، وأن يكون لكل قصته يكتبها ويفرضها، لا أن يتركها للغير يروونها كما يشاؤون، فالقوي عقلا وفكرا وجسما هو الذي يكتب قصته ويترك للآخرين روايتها وتناقلها وملء الفراغات فيها بما يشاؤون، لكنها فراغات مقصودة تزيد من جمال القصة وإثارتها وتشويقها وتوابلها. أما الذي يترك للآخرين كتابة قصته، فهو يحكم على نفسه بالنقص والنقيصة والضياع في النهاية؛ لأن من يكتب له حق التزوير والتلفيق والإضافة والنقصان كما يريد، وهذه سنة الحياة.

وبعد؛ فإن «الرجيف، عمّان: دار الإسراء، 2017، 187 صفحة» لحكمت النوايسة، رواية مختلفة، تحكي الكثير، وتضمر أكثر، تروي حكاية متخلية لكنها واقعية بصورة من الصور، تبدو تاريخية، لكنها حكاية اليوم الذي نعيش. كتبت بلغة جميلة، وسرد ماتع، وعبارة محكمة، ونهايات مفتوحة، أوصلت رسالتها، وتحذر مما هو آت، وأن سبيل القوة واضح، وأسباب التشتت والهوان معروفة، وكل يختار ما يناسب أهدافه وطموحاته وغاياته وعلو همته أو دناءتها.

والجدير بالذكر أن «الرجيف» هي الرواية للأولى للشاعر والناقد النوايسة، وهو ناشط ثقافي وعضو في العديد من الهيئات الثقافية، وصدر له عدد من المجموعات الشعرية والكتب والدراسات النقدية.

كاتب أردني








كاريكاتير

إستطلاعات الرأي