الفلسفة في سياق روائي: حوار مع جوستين غاردير

2021-11-19

جوستين غاردير

ترجمة وتقديم: لطفية الدليمي

جوستين غاردير Jostein Gaarder النرويجي الذي تأهل ليكون مدرساً لمادّتي الفلسفة والأدب في المدارس الثانوية، هو ذاته الذي كتب رواية تحكي عن تأريخ الفلسفة، أصبحت من أكثر الكتب مبيعاً في العالم، وهو مغرم برواية تأريخ الأفكار الكبيرة لعامة القراء والشباب منهم بخاصة.

ولد جوستين غاردير في أوسلو – العاصمة النرويجية – عام 1952 ودرس تأريخ الأفكار والديانات والأدب النرويجي في جامعة أوسلو التي تخرج فيها عام 1976 ليعمل في مدارس أوسلو وبيرغن مدرساً للفلسفة والدين والأدب، وارتقى بهدوء في مهنته الأدبية، فكان يحاضر أحياناً عن مسائل أدبية محددة، ويكتب مقالات وقصائد في الصحف، ويساهم في تحرير المقررات الدراسية.

ابتدأ غاردير تثبيت اسمه كاتباً للقصة والرواية بنشره قصتين قصيرتين أعقبهما بروايتين ذاعت منهما واحدة بعنوان «قلعة الضفادع» The Frog Castle عام 1988 وفي الروايتين يختلق غاردير عالماً فانتازياً مقابل العالم الحقيقي مانحاً شخصياته الرئيسية القدرة على استكشاف ومساءلة منظومة القيم والأفكار السائدة.

يُعدُّ عمل غاردير المعنون (عالم صوفي Sophie’s World ) عمله الأكثر شهرة ومبيعاً في جميع أنحاء العالم، وتعود شهرته إلى تداخل الأنواع الأدبية التي يشتغل عليها، والتي تتمحور على رواية الأفكار. الشخصية المركزية في الرواية هي صوفي: طالبة المدرسة ذات الأربعة عشر عاماً، التي تستلم يوماً ما ورقة غير موقّعة تضمُّ سؤالين جوهريين: «من أنت؟» و«من أين جاء العالم، وإلى أين سينتهي؟»، وقد قادها هذان السؤالان إلى رحلة ممتعة في استكشاف تأريخ الفلسفة الغربية، منذ المرحلة قبل السقراطية، مروراً بهيغل وكيركيكارد وسارتر، وكعادة غاردير في مجمل كتبه، أضاف شيئاً من توابله المطيبة إلى حبكة روايته هذه، مستخدماً التشويق والغموض، وممهداً طريقاً سالكة لفهم تأريخ الأفكار الفلسفية.

التالي إجابات منتخبة لأسئلة طرحت على جوستين غاردير مرفقة بإجاباته عليها، وقد اخترتها من موقعين إلكترونيين: الأول هو موقع مجلة «الفلسفة الآن» Philosophy Now، والثاني هو موقع (Hidden Documentary ).

الحوار

■ يقول ناشروك إن روايتك الذائعة «عالم صوفي» تلقى رواجاً بين كل فئات الأعمار من القراء، رغم أنك كتبتها لطائفة القراء اليافعين والمراهقين. كيف حصل وفكرت في كتابة هذا العمل؟

□ قبل أن أكتب «عالم صوفي» بسنة تقريباً، كتبت رواية موجهة للشباب اليافعين تتناول أباً وابنه ينطلقان في رحلة حول القارة الأوروبية للبحث عن والدة الابن التي كانت اختفت قبل بضع سنوات. انطلق الاثنان أولاً إلى أثينا وهناك تناهت إلى سمع الابن البالغ 13 سنة قصصٌ عن أفلاطون وأرسطو وأسماء أخرى، وبعد أن أكملتُ عملي فكرت في إمكانية أن يذهب هذا الابن اليافع الى مكتبة قريبة ويبتاع كتاباً عن الفلسفة؛ لكن بائع الكتب يفاجئه بالقول: «لا، ليس من كتبٍ للفلسفة لك فأنت ما زلت صغيراً على هذا»، وقد أحسست بالخجل والغضب في الوقت ذاته، وهكذا نشأت لديّ فكرة أن أكتب كتاباً يتناول تأريخ الفلسفة، ويتوجه إلى اليافعين أساساً، ولكنه يصلح للبالغين أيضاً. أعتقد أنّ الكثيرين يرون الفلسفة موضوعاً عظيم الأهمية والإمتاع لهم، ولكنه عسير الفهم أيضاً.

■ أنت تعتقد بضرورة أن تكون الفلسفة ميسرة الفهم للشباب اليافعين، كم كان عمرك عندما استهوتك الفلسفة؟

□ كنت صغيراً للغاية، ولطالما استهوتني الفلسفة قبل أن أعرف كلمة «فلسفة» ذاتها، وعلى العموم أظن أن الأطفال الصغار يسألون على الدوام أسئلة فلسفية من شاكلة «أين نهاية العالم؟» و»من أين جاء كل شيء نراه؟» وأشياء مثل هذه الأسئلة العميقة والأساسية. أذكر وأنا طفلٌ بعدُ كنت أمتلئ دهشة لأسئلة مثل هذه، وقد جاءني الكثير من الرسائل بعد أن نشرت «عالم صوفي» يخبرني فيها كاتبوها أنهم اختبروا أشياء مماثلة لما اختبرته في طفولتي، وقد رأوا في الحياة – مثلما رأيت أنا ـ موضوعاً غاية في الغرابة.

■ واضحٌ تماماً أنك تلبي رغبة متأصلة في نفوس الكثيرين بمقاربتك الموضوعات الفلسفية في ما تكتبه. لماذا تظن أن ما تكتبه سيكون جذابا لليافعين؟ ألا يكفيك مثلاً أنك قمت فعلاً بتدريس الفلسفة لليافعين من الطلبة في المدرسة الثانوية لبضع سنوات خلت؟

□ هناك أمرٌ ما يجعل الفلسفة غاية في الديمقراطية: ذاك هو أنها تشغل اهتمام جميع الكائنات الإنسانية ؛ فالفلسفة تطرح أسئلة من النوع الذي يهم جميع الأشخاص مثل «ما الحياة الجيدة؟». الفلسفة – كما ترى – تسأل أسئلة كونية وذات طبيعة خالدة لا تبلى مع السنوات، وبالنسبة لي فعندما أرى نفسي حياً كل يوم فهذا أمر غريب ويبعث الدهشة في روحي، وممّا يزيد حيرتي أنني أعرف تماماّ حقيقة أنني لن أكون هنا في يوم من الأيام. أرى أنّ الحياة قصيرة للغاية؛ ومع ذلك يمكننا طرح السؤال الجوهري التالي: لماذا تكون الفلسفة على درجة عالية من الأهمية، ونحن نعلم أنّ حياتنا على هذه الأرض قصيرة؟ الفلسفة عظيمة الأهمية لأنها تعزز الفضول وتشحن الرغبة في البحث والمعرفة وتحسّنُ نوعية حياتنا، وهذا ما يجعل الحياة ـ وإن كانت قصيرة ـ أكثر تشويقاً وقدرة على الاحتمال، والمسألة الثانية أنّ الفلسفة تساعدنا على التفكير بطريقة نقدية، وأظنُّ أنّ مجتمعاتنا تفتقد التفكير النقدي إلى حد ما، مع أن المجتمع العاقل يدفعُ باتجاه تنشئة أفراده على عدم التردد في طرح الأسئلة النقدية الكبيرة، ومساءلة المواضعات السائدة. الكلمة الأهم في اللغة الإنكليزية هي «لماذا؟»، ومن المثير أن نعلم أنّ الأطفال يستخدمونها بشجاعة وبلا تردد؛ ولكن أنظرْ إلى صفوفنا الدراسية، فلو أن مدرساً ما قال سنفعل هذا ثم ذاك الأمر، وأنّ طالبا رفع يده وسأل «لماذا؟» لرأى فيه المدرس حتماً طالباً فظاً. هناك سبب ثالث للاهتمام بالفلسفة وموضوعاتها المثيرة، ويكمن هذا في أنّ كثيرا من اليافعين قد انصرفوا في السنوات الأخيرة إلى فلسفات بديلة مثل العصر الجديدNew Age والإيمان بالقوى الخفية Occultism، وهنا يمكن للفلسفة أن تكون غاية في الأهمية أيضاً، إذ ينبغي للمرء أن ينال قسطاً من معرفة مقبولة ووافية بالاتجاهات الفلسفية الرئيسية في الفلسفة الأوروبية ـ والغربية بعامة – ليكون قادراً على تقييم جدوى وأهمية أي فلسفة بديلة تعرضُ أمامه.

■ تقول في موضع ما قريب من خاتمة كتابك «عالم صوفي» أنّ معظم فكر العصر الجديد New Age Thinkingهو شبيه بالفن الإباحي Pornography. ألا تجد في هذا القول نبرة عدائية شديدة القسوة؟

□ كما نعلم فإنّ لدينا الكثير من الأشياء الجاهزة السريعة في مجتمعاتنا: قهوة جاهزة، طعام جاهز، إلخ، وأظنُّ أن الفلسفة البديلة تخدم كأمرٍ شبيه بـ»فلسفة جاهزة «. الفلسفة بالنسبة لي اشتغال قائم على مساءلة الأسئلة الجوهرية، ومحاولة الإجابة عنها بهدوء وصبر؛ بينما توفر الفلسفات البديلة إجابات متسرعة للغاية.

■ قلتَ إنّ الفلسفات البديلة تقدم إجابات متسرعة لقضايا جوهرية، هل يمكنك إلقاء المزيد من الضوء الكاشف على فكرتك هذه؟

□ تقوم كشوفات الفلسفة البديلة على إشاعات أو قناعات مهلهلة لا يعتدُّ بها عن أناس انخرطوا في تجارب كاشفة، ثم تبيّن لاحقاً أنها زائفة. أرى في الفلسفات البديلة أنها تقدم إجابات سريعة سهلة المنال لمن كان مسكوناً بالدهشة إزاء هذا العالم بالطريقة ذاتها، التي يوفر بها الفن الإباحي مخرجاً سريعاً وسهلاً للمعضلة الإيروتيكية؛ ولكن البشر في حقيقة الأمر ليسوا بحاجة إلى الفن الإباحي، بل إن حاجتهم الأساسية هي الحب الحقيقي، والحب كما نعلم يتطلب وقتاً، ولا توجد طرق سهلة سريعة ومختصرة توصلك إلى الحب، أو أن يتفهمك الآخرون، والمعضلات الكبيرة في الحياة كذلك تتطلب وقتاً للفهم. نحن نعيش في مجتمعات متدافعة دوماً وتتقاتل على الوقت، ولا نمنح أنفسنا الفرصة الكافية لاكتساب المعرفة حول الموضوعات الإشكالية الكبرى في الحياة.

■ عندما درّستَ الفلسفة لطلبتك، مَنْ هم الفلاسفة المفضلون الذين أحبهم الطلبة أكثر من سواهم؟

□ غالباً ما يسألني الناس عن الفيلسوف المفضل لي، وأجيب دوماً أنني أهتمُّ بالأسئلة التي تطرحها الفلسفة أكثر من أي شيء آخر عداها، وأظن أن هذه السمة انتقلت إلى طلبتي أيضاً. أرى أنّ الطلبة في العموم يحبون هيوم Hume والفلاسفة قبل السقراطيين Socratic – Pre وديكارت Descartes وموضوعه الرائع في معضلة العقل ـ الجسد Mind / Body Problem، وأخيراً لا بد من ذكر سارتر.

■ بالعودة إلى كتابك «عالم صوفي» وبالإشارة إلى ما ورد فيه، في ما يخصُّ القرن العشرين، لماذا لا نجد ذكراً لأيٍّ من الفلاسفة المبرّزين فيه مثل فتغنشتاين Wittgenstein؟

□ أنا من أشد المولعين بفتغنشتاين ويمكنني القول، إنّ كثيراً من عباراتي تماثل عباراته. لديّ الكثير من الأسباب التي دفعتني إلى عدم ذكر أي أسماء فلسفية بارزة في القرن العشرين مثل، راسل وفتغنشتاين وهايدغر ومدرسة فرانكفورت الفلسفية، إلخ، وربما كان السبب الأبرز بينها أنني لست ضليعاً بما يكفي بفلسفة القرن العشرين، والأمر الثاني أنني أدرّسُ الفلسفة لطلبة في الثانوية، لا يحتوي جدولهم الدراسي أياً من مفردات فلسفة القرن العشرين التي تركّزُ في معظمها على موضوع الفلسفة الوضعية Positivist والفلسفة التحليلية Analytic؛ بل حتى هناك من بشّر بموت الفلسفة في القرن العشرين، وردّها إلى محض موضوعات التحليل المنطقي للغة، وذاك أمر لم أرغب فيه يوماً، والأمر الأخير، أنني لا أريد تعليم الفلسفة في سياق تفصيلي مطول، بل لا بد من التركيز على الأصول والأساسيات التي تجعل السياق الفلسفي مترابطاً ومؤهلاً للدراسات الفلسفية التخصصية في الجامعة لمَنْ كان يرغب في هذا.

■ كيف أدركتَ أول مرة أنك تسعى لاتخاذ الفلسفة مهنة لك؟

□ عندما كنت في الحادية عشرة نهضت أحد الأيام من نومي وشعرتُ بأنني جزء من أحجية غامضة، بدأت بعدها بسؤال كلّ مَنْ كنت أعرف «ألا تعتقد أنّ من الغريب حقاً أنّ العالم موجود كما نعرف؟» وكان جوابهم الدائم: لا. لا أعرف شيئاً عن هذا الأمر». أرى في صيرورتي كاتباً نوعاً من الثأر الدفين لعدم المعرفة التي جابهني بها كل مَنْ سألت.

■ لندققْ قليلاً في العملية الإبداعية التي تخوض فيها وأنت تكتب رواياتك. هل تبدأ في العادة من حبكة ما؟ أم من رسالة فلسفية ما؟

□ عندما كتبت «عالم صوفي» كنت أعتقد أنّ قلة من الناس ستقرأ الكتاب؛ إذ لطالما اعتقد الكثيرون، أنّ الفلسفة صعبة وأكاديمية، ولكن عندما تتاح لنا قراءة الفلسفة في سياق روائي، فإنّ الناس تستجيب بطريقة مختلفة. الشيء الذي تشترك فيه روايتي «عالم صوفي» مع روايتي الأخيرة «قلعة على البيرينيه» هو أنني استخدمتُ الروايتين لغايات تعليمية؛ ومع أنّ روايتي الأخيرة تتناول قصة حب، لكن قصدي الأساس فيها كان إجراء مواجهة بين العلم والميتافيزيقا والانشغالات الروحية.

■ بيع من كتابك « عالم صوفي» أكثر من ثلاثين مليون نسخة في لغات عديدة، منذ أن نُشِرت أول مرة، أي ملاحظات تردك من القراء بخصوص هذا الكتاب؟

□ يحصل أن أوقع أحياناً بعض الكتب للقراء ويخبرني معظمهم أن حياتهم تغيرت تماماً بعد قراءة هذا الكتاب، وأشعر بأنني ممتن لهم كثيراً، وكلُّ ما أبتغيه أن تكون حيواتهم قد تغيرت نحو الاتجاه الأفضل.

■ يستكشف كتابك «قلعة على البيرينيه» العلاقة بين العقلانية والاشتغالات الروحية بعيون عاشِقَيْن: رجل وامرأة هما شخصيتا الرواية الرئيسيتان. ما رؤيتك أنت للعلاقة بين العقلانية والروحانية؟

□ سأجيب بوضوح: لدينا من جهة الأسئلة الوجودية الكبرى مثل: ما طبيعة الكون؟ هل يوجد إله؟ هذه الأسئلة لها أجوبة غير أنها ليست نهائية أو متفقا عليها، وقد انسحب كثيرٌ من هذه الأسئلة من ميدان الميتافيزيقا إلى ميدان الأبحاث العلمية. مِنْ جانب آخر لدينا أسئلة من نوع: ما القيم الحقيقية؟ ما الحب؟ ما العدالة؟ والتي لا يمكن إعطاء إجابات نهائية لها.

■ ما الذي يُبْقي قدرتك الإبداعية مندفعة عندما تكتب؟

ـ إنّ جزءاً مهماً من عملي يكمن في المشي؛ فأنا لا أستطيع تحريك أفكاري من غير أن أحرّك جسدي، وأحب كثيراً مغادرة المناطق الحضرية والتجول بين الجبال، وبالنسبة لي أرى قيمة أساسية في أن أجد دوماً منفذاً إلى البرية غير الملوثة بأفعال الإنسان. أشعر بأنّ بإمكاني أن أتعلم من الأشجار والقرى أكثر بكثير مما أتعلمُ من سكان المدن.

كاتبة وروائية ومترجمة عراقية تقيم في الأردن







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي