"أنا كارل" فيلم يفتح جراح العنصرية الغائرة

2021-10-16

شخصيات تخفي أحقادا عنصرية قاتلة

طاهر علوان*

العنصرية والصعود المتنامي للحركات المتطرفة يمثلان قضية محورية اليوم في أوروبا، قضية قد تنفجر في أي لحظة بشكل عنيف وتخلف مشهدا دمويا مؤلما إذا لم تعالج بالطرق المناسبة، ولعل السينما من الفنون القادرة على معالجة واقع معقد مثل هذا، وهذا ما نجده في فيلم “أنا كارل” الذي يفضح حقيقة العنصريين.

مهاجرون يشكّلون ظاهرة عالمية في مقابل كارهين لهم، بالتزامن مع وجود تيار يميني متطرف ينتشر كالفطر في العديد من البلدان، ويعتاش بشكل طفيلي على هامش المجتمعات الغربية مقتاتا على قضايا الهجرة والمهاجرين.

هذا المشهد يتجلى على الشاشة من خلال فيلم “أنا كارل” للمخرج الألماني كريستيان شواتشاو الذي يقدم رسالة بليغة لأزمة وجودية قاسية ما تزال تتفاقم من حولنا وخاصة في أغلب دول القارة الأوروبية حتى صار التغاضي عنها ضربا من الوهم والتجاهل غير المجدي، ولهذا يفتح هذا المخرج المثابر ذلك الجرح الغائر ويغوص عميقا في الآلام التي نتجت عنه على صعيد المجتمعات الغربية وليدخل إلى عينة محددة في المجتمع الألماني ثم لينطلق في مقاربة الظاهرة إلى عموم القارة الأوروبية.

الأحقاد العنصرية

 

في المشاهد الأولى لا تتوقع أن يجتذبك الفيلم فكأنك مع فيلم وثائقي وحركات كاميرا محمولة على الكتف ومهتزة ووجهين عاديين لا يلفتان النظر هما أليكس (الممثل ميلا بيشيل) وزوجته إينيس (الممثلة ميلاني فوتش) وكلاهما يقومان بتهريب يوسف (الممثل عزيز دياب) من أحد البلدان الأوروبية باتجاه اليونان، وبكل ما يحمله ذلك من مخاطرة إلا أنهما ينجحان في المهمة، ويشعران بفرح غامر بعد إنقاذ يوسف الذي يخر ساجدا بعد وصوله إلى ألمانيا.

الفيلم يمزج ببراعة بسبب طابعه الواقعي بين شكل الفيلم الوثائقي واليوميات التي تتجلى فيها طباع العشرات من الشخصيات

بعد هذا التمهيد سوف ننتقل مباشرة إلى صورة موازية خلاصتها ما يمور في داخل المجتمع الألماني نفسه بالضد من المهاجرين، وبذلك يصنع المخرج خطين سرديين متوازيين ويجعل من ذلك التفاعل مجرد إشعال لفتيل لن ينطفئ بسهولة، وكأنه أراد بذلك التمهيد لكي يزج بنا في مهب عاصفة هوجاء بشعة قائمة على الأحقاد العنصرية تتفشى في أوساط جيل من الموتورين الذين يرفعون شعار استعادة أوروبا من الأجانب.

سوف تبرز في وسط هذه الدراما شخصيتان رئيسيتان وهما كارل (الممثل يانيس نيوهنير) وماكسي (الممثلة لونا ويدلير) فالأول هو الذي يقود في الخفاء ذلك المد العنصري في أوساط تيار شبابي جامعي فيما يستغل حزن ماكسي بفقد شقيقيها وأمها في تفجير إرهابي ضرب العمارة التي تسكنها عائلتها ولم ينج إلا والدها، يستثمر كارل حنق ماكسي ويبدأ بالتودد إليها واستمالتها سواء بالغزل والحب أو بضخ اعتباراته العنصرية وإيهامها بأن قتلة عائلتها من الإرهابيين هم المهاجرون وخاصة المسلمين.

هنا يقع التحول في هذا البناء الدرامي ويتعمق المخرج كثيرا في تلك الظاهرة المتنامية من خلال مؤتمر عام يشمل طلبة من مختلف البلدان الأوروبية، وتكون ماكسي هي ضيفة الشرف، وهنا يقع التحول في مواقفها في كراهية الأجانب لتشاطر آراء تلك المجموعة فيما كانت على الطرف الآخر سياسية فرنسية من اليمين المتطرف تتولى الإشراف على تلك النشاطات المحمومة.

تأجيج الكراهية والعنف

يمزج الفيلم ببراعة بسبب طابعه الواقعي ما بين شكل الفيلم الوثائقي وبين اليوميات التي تتجلى فيها طباع العشرات من الشخصيات التي يسقي بعضها بعضا ذلك الشعور العنصري، لكن المخرج وفي موازاة ذلك يوصل لنا معلومة ضمنية يظهر فيها كارل نفسه ومع ثلة من حلقته الضيقة هو الذي يحمل القنبلة التي انفجرت في المبنى الذي تسكن فيه عائلة ماكسي فيما هو يعبر عن التعاطف الشديد معها.

ولنذهب إلى ما هو أبعد من ذلك في تصعيد درامي كبير يشمل أوروبا برمتها من خلال قرار كارل والحلقة المقربة منه أن يطلقوا الرصاص عليه ويردونه قتيلا، لكي تنطلق شرارة كراهية مطلقة تحيلنا وتذكرنا بفيلم التطهير بأجزائه الثلاثة، الذي يقدم وعلى مدار ليلة واحدة جحيما حقيقيا من الانتقام وكذلك يفعل أصحاب كارل عندما يتقدمون نحوه وهم مقنّعون ويمطرونه بالرصاص لتنطلق شرارة انتقام عشوائي يقوم بها المنصارون له والمتصارخون، كلنا كارل.

لكن الصدمة الكبرى تقع بالنسبة إلى ماكسي التي تجد نفسها في وسط دوامة ما بين العلاقة التي نشأت بينها وبين كارل وما تشاهده من عمليات انتقام عشوائية ووحشية تطال أي أجنبي يسير في الطريق، ليشتعل العنف المقابل في العديد من الدول الأوروبية.

لا شك أن المساحة الزمنية التي تم نسج خطوط السرد من خلالها قد قربتنا كثيرا من صورة واقع اجتماعي تم الغوص فيه بكونه زمننا الراهن وأزمتنا الإنسانية الوجودية ذلك أن الفيلم يلامس في الصميم ما في ذواتنا من ألم وشعور بوطأة اللاإنسانية، ومن خلال ذلك تقديم سلسلة من أجمل المشاهد المصنوعة بعناية وهي اختبار ماكسي ووالدها والمهاجر يوسف وهم في حالة من الذعر الشديد ولا يعلمون من أين يمكن أن يأتيهم الرصاص أو العنف الذي يسلطه عليهم أحد العنصريين.

مشهد انشداد يوسف لماكسي ووالدها هو الذي اختصر كل شيء وهما يجوسان في نفق مظلم لا تكاد تبدو نهاياته، بينما يردد يوسف بلكنته العربية الشامية كلمات تتغنى بالغد وزوال الظلام وكل ذلك على وقع الصراخ والعويل والرصاص العنصري المنهمر في كل مكان وحيث اختلطت الحقائق وكثر أولئك المقنعون الذين يرتكبون الجرائم ثم يتوارون ويلصقونها بالمهاجرين من المسلمين بينما هو هناك يتفرجون على تأجيج الكراهية والعنف.

 

  • كاتب عراقي مقيم في لندن






كاريكاتير

إستطلاعات الرأي