بروكسل السينمائي 4: تمازجٌ ثقافي في عالم قلق

2021-09-05

 ماتيو أملريك  (باسكال لو سِغْرُتان/ Getty)

ندى الأزهري

خلال توجّهي إلى مقرّ حفلة افتتاح الدورة الرابعة (1 ـ 11 سبتمبر/ أيلول 2021) لـ"مهرجان بروكسل السينمائي الدولي"، سيراً على القدمين لقربه من الفندق، كان الحديث بالفرنسية مع ضيفين آخرين برفقتي لا يتمّ بيسر.

رغم كونهما من بلجيكا، وتحديداً من منطقة الـ"فلاندر" الناطقة بالهولندية في الشمال، وكون الفرنسية اللغة الثانية (حوالي 41 بالمائة يتحدّثونها في منطقة "والونيا") في البلد (اللغة الثالثة الألمانية)، لا يُتقن الزوجان الفرنسية، ولا يبدوان مُكترثَين بهذا. المُحادثة حافلةٌ بالطرافة لسوء فَهم متوقّع بيننا.

عملية الربط بين ربحهما بطاقة يانصيب وحضور المهرجان عسيرةٌ عليّ. لم يتمكّنا من الشرح، بفرنسيتهما الركيكة، العلاقة بين الأمرين، وأنّهما ربحا بطاقة يانصيب خاصة تخوّلهما الإقامة ليلةً واحدة في فندق فخم، وحضور افتتاح المهرجان، وما يسبقه ويتبعه من حفلة استقبال، تتمّ فيه لقاءات مع "كبار الشخصيات" من نجوم السينما.

في الحقيقة، أضاف تواجدهما استمتاعاً، وصنع لقاءً غير مُتوقَّع- بل هو سورياليّ- لي على الأقلّ، واستهلالاً لغوياً واقعياً، يضع مكتشفه فوراً في تعقيدات لم ينتظرها. فالأمر لم يقتصر عليهما.

فكلّ منشورات المهرجان وترجمات الأفلام مكتوبة بالفرنسية والهولندية والإنكليزية، وحفل الافتتاح تمّ كذلك بهذه اللغات الثلاث.

لكنّ هذه الإطالة لم تنتقص من أجواء مُحبّبة طغت عليه، وتلقائية سادته، وضحكات رافقته، لا سيما عند استقبال ومحاورة المخرج الفرنسي ماتيو أملريك والممثل البلجيكي آريه ورثالتَرْ وفيلمهما "ضُمّني بقوّة" (2021)، المعروض في الحفلة نفسها.

بعد أنْ كان موعده في يونيو/ حزيران الماضي، تمّ تأجيله إلى الأيام الأولى من سبتمبر/ أيلول الحالي، بسبب كورونا. تَرافُق موعده هذا مع "مهرجان فينيسيا السينمائي" (الدورة الـ78، بين 1 و11 سبتمبر/ أيلول أيضاً) لم يكن عائقاً، فالأهمّ أولاً أنْ تناسب التوقيت مع الجمهور المحلي، كما قالت سيلين ماسّي، مديرة مهرجان بروكسل، لـ"العربي الجديد". أهمية هذا الجمهور تتبدّى أيضاً في قيمة الجوائز المالية التي يمنحها للأفلام الفائزة باختياره.

بالإضافة إلى تظاهراته الموازية، ومنها استعادة لأفلام الفرنسي بُنوا دُلبين بحضوره (له "محو التاريخ"، عام 2020، بمشاركة غوستاف كيرفيرن)، يضمّ المهرجان ثلاث مسابقات للفيلم الروائي أو الوثائقي الطويل (جوائز مالية): المسابقة الدولية، التي تبلغ جائزتها الكبرى 14 ألف يورو، يحصل الموزّع في بلجيكا على جزءٍ منها، ويهدف المهرجان بهذا لدعم الأفلام الفائزة بحصولها على موزّعين لها في الصالات المحلية.

هناك أيضاً جائزة لجنة التحكيم (6500 يورو). المسابقة الأوروبية، المُكرّسة لمخرجين من أوروبا، تبلغ قيمة جائزتها 7500 يورو، بينما الحصّة الأكبر مخصّصة لمسابقة الأفلام الوطنية، إذْ تبلغ القيمة المالية لجائزتها 15 ألف يورو.

ويُصوّت الجمهور في المسابقات الثلاث، فيمنح 6500 يورو لفيلمين من المسابقتين الأولى والثانية، و3000 يورو لفيلم من المسابقة الثالثة.

عروض الأفلام أولى في بلجيكا، ونجاحات عالمية آتية من مهرجانات أخرى، كـ"برليناله" و"كانّ"، من دون أنْ يعني هذا عدم وجود اكتشافات خاصة بالمنظّمين، الذين وصلهم نحو 200 فيلم. مثلاً: تتضمّن المسابقة الدولية الفيلم البوسني المشهور، الذي عُرض في مهرجانات عدّة: "إلى أين تذهبين يا عايدة؟" (2020)

لياسميلا زبانيتش، عن مذبحة سربنيتسا التي ارتكبها الصرب في البوسنة؛ إلى المكسيكي "النظام الجديد" (2020) لميشال فرانكو، عن مستقبلٍ قريبٍ يقتحم فيه ضحايا التفاوت الاجتماعي المتزايد حفل زواج مكسيكي باذخ، فيكون هذا بداية ثورة تُشعل الشوارع، وتوقظ الجيش.

من فرنسا، هناك "العالم ما بعدنا" (2021) للودا بن صالح كزاناس، عن مواجهة الحياة اليومية ومشاقها، والانشغال بحاجاتها التي تقف عائقاً، أحياناً، أمام الإبداع.

فيلمٌ آخر، فرنسي صيني، بعنوان "مستشفى رقم 6 (H6)" للصينية يي يي، عن مستشفى الشعب رقم 6، أحد أكبر المستشفيات في شنغهاي، حيث يتكدّس الطاقم الطبي والمرضى والأُسَر، وحيث يعاني الجميع اضطراباتٍ ومصاعب في الحياة. عبر قصصهم المتقاطعة، تُرسَم صورة للصين اليوم، المُشتّتة في مواجهة تقلّبات الحياة بين الحداثة المفرطة والثقافة التقليدية.

من بريطانيا، هناك "ليمبو" (2019) لبَنْ شِرِّك، عن لاجئ سوري شاب، هاوي موسيقى، انفصل عن عائلته، ووجد نفسه محجوزاً في اسكتلندا، بانتظار الحصول على لجوء. ومن تايوان، يُشارك "صبيان المال" (2021)، للمخرج سي. بي. يي، عن البؤس والفقر الشديدين، اللذين يدفعان شاباً إلى ممارسة الدعارة في المدينة، ليكفي حاجات أهله في قرية صغيرة في الصين.

تحضر فرنسا في المسابقة الوطنية. فمن 9 أفلام بلجيكية، 3 منها إنتاج مشترك مع فرنسا. أما أسبوع المخرجين، أو المسابقة الأوروبية، ففيها 8 أفلام، 5 منها إنتاج مشترك مع فرنسا، و3 لمخرجين فرنسيين.

كما هناك أفلام من صربيا والبرتغال وسويسرا وبلغاريا. أفلامٌ تعكس مواهب عدّة للفنّ السابع الأوروبي، يصفها منطّمو المهرجان بأنّها "انتقائية"، لكنّها تُعبّر عن الهدف المشترك الذي يتقاسمه صانعو الأفلام، بإلقاء نظرة فريدة ـ جذرية أحياناً ـ على مجتمعاتنا.

وإذا كانت العائلة تجلس غالباً في قلب قصصهم، فالأفلام تُخبِر أيضاً عن عوالم تتلاشى، كصدى مزعج للحاضر المُضطرب، الذي (الحاضر المضطرب) يتبدّى في معظم أفلام المسابقات والتظاهرات الموازية، ويترافق مع أبطالٍ يبحثون عن معنى لحياتهم، وهم متوتّرون وقلقون من كوكب، يتوسّل إليهم الاعتناء به، كما قال المنظّمون.

أفلامٌ تُنبئ عناوينها عن مضمون يعكس هذا الشعور العام بالقلق العميق والأسى، وبأسئلة وجودية تظلّ من دون إجابات، عن معنى الوجود في عالم اليوم، على هذه الأرض المحكومة بلا مبالاة الكائن البشري.

في دورته الرابعة هذه، يبدو "مهرجان بروكسل السينمائي الدولي" بعيداً عن المهرجانات التي يُقال عنّها إنّها كبيرة.

مهرجانٌ شابٌ، يطمح ـ في دورته هذه ـ إلى دور أكبر، يناسب الموقع الثقافي لبروكسل، وكونها عاصمة تستضيف مقرّ "الاتّحاد الأوروبي".

مهرجانٌ حديث، حَدّ كورونا نشاطَه العام الماضي، وغَيّر برمجته هذا العام. لكنّ هذا لم يمنعه من بذل جهود وتنظيم نشاطات تهمّ العاملين في السينما، ودعوة عائلة الفنّ السابع في ورشات عمل، لتُشارك خبراتها ومعارفها ومشاعرها ووجهات نظرها حول مستقبل السينما.

وليكونَ على قدر توقّع جمهوره، وتحقيق فكرته عن ضرورة التمازج الثقافي، بل التمازج بكل أنواعه، ويعبّر عن هذا الرمز الذي اختاره ليكون عنواناً للتعدّد: الحمار الوحشي، بخطوطه البيضاء والسوداء جنباً إلى جنب.

 

 







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي