هكذا تمت 'فبركة' الشعب اليهودي

خدمة شبكة الأمة يرس الإخبارية
2009-11-16

لندن - من مروان بلطرش  - يذكرني الكاتب والمؤرخ الإسرائيلي "شلومو ساند" بعالم اللسانيات، المفكر و"المتمرد" الأميركي نعوم تشومسكي الذي جاوز الواحدة والثمانين من العمر وهو لا يزال في ريعان شبابه الفكري.

الرجلان قد يختلفان في الاختصاص وفي فارق السنوات الثماني عشرة، لكنهما يشتركان في أهم ميزات المفكر المحايد والمؤثر، إلى جانب كونهما ينحدران من عائلات يهودية شرق أوروبية.

ورقتي هذه ليست عن تشومسكي الذي ألقى محاضرات بلندن في 29 أكتوبر الماضي في أول سفرية له خارج الولايات المتحدة منذ أزيد من ثلاث سنوات، لكنني سأتحدث هنا عن المفكر الإسرائيلي وأستاذ التاريخ بجامعة تل أبيب البروفيسور شلومو ساند، وتحديدا حول كتابه الأخير "ذي إنفنشن أوف ذي جِيوِيش بيبول" أو "اختراع الشعب اليهودي" الذي صدر بطبعته الإنكليزية في أكتوبر 2009 عن دار "فارسو" البريطانية للنشر.

الكتاب يمكن اعتباره "ثورة" في نظريات التاريخ الإسرائيلي التي قامت على تحريف التوراة ونشر مبادئ "فلسطين أرض الميعاد" ضمن أهداف ومخططات الحركة الصهيونية التي قامت إسرائيل على قواعدها ولا تزال تتشبث بها حفاظا على بقائها وتوسعها.

تنبغي الإشارة قبل طرح أفكار الكاتب أن الكتاب نُشر أولا باللغة العبرية العام الماضي وتربع على قمة مبيعات الكتب في إسرائيل لأكثر من تسع عشرة أسبوعا متواصلا، كما تربع على قائمة الكتب التي لاقت موجة انتقاد وتجريح واسعين من قبل المؤرخين المحافظين في إسرائيل.

ثم تُرجم الكتاب في نفس العام إلى الفرنسية وحقق نجاحا منقطع النظير في فرنسا، إلا أنه لم يدخل بوابة الشهرة العالمية إلا الشهر الماضي مع ترجمته للإنجليزية وتقديمه للقراء من مكتبات عاصمة الضباب لندن وفي نيويورك أياما قبل ذلك. الكاتب نفسه قام بين 9 و12 نوفمبر الجاري بتنظيم لقاءات تلفزيونية مع تلفزيون وراديو البي بي سي ونظم محاضرات في عدة معاهد وجامعات في لندن، كما عقد مناظرات مع عدد من معارضي طروحاته، لعل أبرزها التي جرت الاثنين الفارط وجمعته بمقر مكتبة "بوردرز" اللندنية الضخمة بالنائب في البرلمان البريطاني والوزير السابق دينيس ماكشين صاحب كتاب "عولمة الكراهية: معاداة السامية الجديدة" والنائب هذا من أصل بولندي غير يهودي على ما تذكر سيرته الذاتية.

يقول شلومو أنه فتش في كتب التاريخ الإسرائيلية لكنه لم يعثر على أثر لقصة التهجير الجماعي لليهود من إسرائيل ويضيف بالقول أن "هجرة اليهود المزعومة لتبرير عودتهم إلى فلسطين اليوم هي كذبة مختلقة، حتى الروم الذين قادوا حملات تطهير عرقي ضد اليهود لم يجبروهم على ترك أرضهم في مناطق كثيرة كانت تخضع للحكم الروماني."

وبكثير من التفصيل الذي تحتاجه نظريات التاريخ ينطلق صاحب الكتاب في تعريف معنى "الأمة" استنادا إلى مقولة المفكر التشيكوسلوفاكي- الأميركي كارل ولفغانغ دويتش المتوفى عام 1992: "الأمة هي مجموعة من الناس اتحدوا حول خطأ شائع عن أصلهم، واتحدوا أيضا في العداء الجماعي ضد جيرانهم" وهذا بالضبط ما ينطبق على إسرائيل اليوم، يقول الكاتب، فاليهود يعتقدون أنهم من أصل واحد وهذا خطأ شائع واتحدوا بينهم في تنفيذ عدائهم الجماعي ضد الفلسطينيين حتى صار الأمر "علما شائعا".

ويحلل شلومو هذه المقولة بالتأكيد على أن مصطلح "الشعب اليهودي" لا يوجد إلا في قواميس الحركة الصهيونية ولا يمكن تنفيذه في أرض الواقع، بل الأصح أن يقال الشعب الإسرائيلي ما دام أن هناك مجموعة من الناس تشترك في لغة واحدة وتقطن في رقعة واحدة والجميع يحمل جنسية واحدة وهذا سيشمل حتما العرب المقيمين في حدود هذه الرقعة. ويبنى شلومو نظريته التحليلية على ضرورة وضع اليهود ككل في سياقات ثلاث تخص الإثنية (العرق)، الثقافة والدين الذي يمثل الرابط الوحيد المشترك بينهم جميعا ولا يمكن تعميم العنصرين الأولين على الكل فهذا خطأ متعمد ترتكز عليه الصهيونية للملمة عناصر غير متجانسة في مجتمع يبدو متجانسا لتبرير ما تقوم به إسرائيل وبحثا عن الغطاء الشرعي الدولي.

يذهب الكاتب بعيدا في تفسير الكثير من المعتقدات التاريخية المُحرفة لليهود عندما كتب يقول أن قصة تهجير اليهود إلى منطقة حوض المتوسط هي مجرد اختلاق قامت به الكنسية المسيحية ثم تبنته الحركة الصهيونية لخلق مشروع عودة اليهود إلى أرضهم. ويعطي الكاتب تفسيرا تاريخيا يبدو أكثر موضوعية وأقرب للحقائق التاريخية حيث أرجع وجود كثافة "يهودية" في منطقة المتوسط إلى حملة تهويد شرسة عرفتها المنطقة ككل خلال حكم مملكة هاسمونين بين القرن الثاني قبل الميلاد والقرن الرابع الميلادي، والتفسير الوحيد لانتشار اليهودية آنذاك، خصوصا في شمال إفريقيا والمنطقة العربية حاليا إلى غاية حدود البحر الأسود وبحر قزوين، هو ليس هجرة جماعية إليها، بل لانعدام سيطرة الكنيسة المسيحية الأوروبية على تلك المناطق وبالشكل الذي يمنعها من وقف تلك الحركة، على عكس ما كانت تعانيه باقي المناطق من بطش وسطوة وسيطرة "دينية" كنَسية قاهرة.

وعلى هذا النحو يشير شلومو إلى أن يهود أوروبا الشرقية المعروفون بالياديشيين لم ينحدروا من سلالة اليهود الألمان الذين ادعوا أنهم من سلالة اليهود المهجَّرين، بل إن الياديشيين (والكاتب واحد منهم) أصولهم تعود إلى ملة "الخزر" التي اعتنق أفرادها الديانة اليهودية في القرن الثامن الميلادي.

والخزر شعوب تركية قديمة ظهرت في شمال القوقاز واستقرت في منطقة الفولغا السفلى (جنوب روسيا حاليا). وامتد تاريخ مملكة الخزر بين القرنين السابع والعاشر الميلادي قبل سقوطها عام 969م على يد سفياتسولاف الأول (دوق كييف) وبدأ الأفراد والجماعات في التشرذم في مناطق كثيرة من العالم خصوصا أوربا الشرقية حتى انقرضت ثقافتهم كمجتمع. ويقول المؤلف أن هذه التعقيدات في السلالة الياديشية كانت في الحقيقة إرهاصات تاريخية لميلاد أكبر فرقتين يهوديتين وأكثرها "صخبا" منذ أزيد من نصف قرن، وهما فرقة الإسرائيليين والأميركيين.

وبرأي الكاتب فإن هاتين الفرقتين قد أوصلتا العالم اليوم إلى استحالة إنكار حقهم في "أرض أجدادهم" وضمنتا حق الأرض والدولة لكل يهودي حتى لمن ولد من أم يهودية فقط ويعيش في نيويورك أو لندن وإن رفض العيش فيها والخضوع لسيادتها، والعكس بالنسبة لمن ولد فيها من أبوين غير يهوديين.

ومن هذا الطرح الإثني لليهود يستخلص شلومو أن سكان فلسطين التاريخيين أي العرب اليوم هم أقرب ورثة لليهود الأوائل من الإسرائيليين الذين بدأ تاريخهم مع تأسيس إسرائيل.

قد يتساءل كثيرون عن الجديد الذي حمله كتابنا هذا قياسا بما تنادي به بعض الجمعيات اليهودية غير الصهيونية التي تطالب بإزالة إسرائيل كلية، كالتي يرأسها الحاخام الأميركي- المجري يوسرائيل دوفيد ويس الناشط الذي لا يمل من تنظيم المظاهرات في المدن الأميركية مطالبا بإزالة إسرائيل وتخليص العالم من الحركة الصهيونية، لكن الفرق في نظري بين دوفيد ويس وشلومو ساند هو نفسه الفرق بين الحاخام والمؤرخ، بين رجل الدين والأكاديمي، ففي حين يستند ويس إلى التوراة ليثبت أن اليهود شُردوا في الأرض عقابا لهم ولا يحق لهم "بنص إلهي" تأسيس دولة وهذه الرؤية تحتاج طبعا إلى من يؤمن بها ويعتقدها قبل أن يتبناها ويعمل بموجبها، إلا ساند يناقش القضية من وجهة نظر تاريخية أكاديمية قد يقبلها كثيرون خصوصا في الغرب دون أن يشعرهم ذلك بأنهم فقدوا جزءا من معتقداتهم الدينية التي تتعقد أكثر في هذه القضية بالذات.

الكتاب في طبعته الإنكليزية يقع في 332 صفحة من الحجم المتوسط، وهو ذو قيمة تاريخية وبحثية نادرة بحيث كان من المنطقي أن يُترجم إلى العربية قبل أية لغة ثانية مادام أن الكاتب تناول قضية مصيرية للعرب والفلسطينيين بالأخص دون شك وحيث أن الكتاب نُشر في إسرائيل العام الماضي وأحدث ضجة أتصور أن صداها وصل إلى أسماع الأكاديميين الفلسطينيين ممن يجيدون اللغة العبرية.
______________________________________
 









شخصية العام

كاريكاتير

إستطلاعات الرأي