الحاذف والمحذوف إلى الأبد - حسن أحمد عبدالله

خدمة شبكة الأمة برس الإخبارية
2009-09-07
الجدل الجاري حاليا في ألمانيا يدل على المدى الذي تعاني منه المنظومة الثقافية المعاصرة من قيود.

أن تصبح فجأة خارج النص، أي خارج المحيط الذي أنت موجود فعلا فيه، فهذه كارثة لأن ذلك يرميك في غيهب العزلة، وفي دوامة الاحتمالات التي لن تنتهي بك إلى أي مكان.

عندما تمارس الرقابة دورها على أكمل وجه، الأكمل وجه هذا من منظور الرقيب، فأنت حتما خارج النص، خارج الزمان، والمكان أيضا، ما تحاول أن تقوله ليس له أي قيمة لأنه ينتهي عند حدود الرقيب، "الفيلتر" الذي يريدك أن تقرأ ما يراه مناسبا، وأن تشاهد ما يعتبره مفيدا لك.

في المنظومة الثقافية الحالية لا توجد حرية مطلقة في التلقي، ولا في التعبير، فكل ما يصل إليك مر في شكل أو آخر على هذا الرقيب أو ذاك، خضع هنا لتعديل، وهناك لإعادة صياغة، وفي محطة ثالثة عدلت المشاهد لتحذف ما يشاء الحاذف، ودائما أنت المحذوف، والمحذوف منك ... وإليك.

عندما تسود بياض الصفحة بالحبر تكون فرغت بعض ما فيك من فرح أو حزن، من غضب أو تأييد، لكن الحاذف يختار أن يعيد لك الورقة وفي بعضها بياض، يكون أشبه بالسكين التي تجز من لحمك الحي بعضا مما لا يعجب الحاذف، وعليك أن تقبل ذلك، وأن تبحث عن الطرق التي تؤدي بك إلى المحافظة على لحمك كاملا، أو عمرك كله من الحاذف، وأن تمرر المحذوف مرة أخرى على بياض ورقة جديدة، وتتحول المسألة كلها إلى ما يشبه التهريب، لكنه التهريب الذي لا يدفعك إلى الهاوية مرة واحدة إنما تسبقه تحذيرات.

ندعي في العالم العربي أننا نخضع إلى أعتى أنواع الرقابة، نعم الرقابة عندنا قاسية وغير رحيمة، لكن في المقابل هي رقابة مستوردة، مأخوذة عن المرجعيات التي شكلت وعينا القانوني والثقافي الحديث، وهي في أحيان "رقابة مجاملات" لا علاقة لها بأي اعتبارات ثقافية يراها الحاذف مهددة لسلطته، إنها تساير هذه السلطة أو تلك، تساير السلطات غير الدستورية، سلطات الأمر الواقع، الدينية أو التقليدية، أو القبائلية، كما أنها تساير طبيعة العلاقات مع الدول الأخرى، وأحيانا كثيرة تساير هذه الجماعة أو تلك، وتوظف توظيفا سياسيا مغايرا لما تعلنه هذه الجماعة أو تلك.

يدور نقاش الآن في ألمانيا مثلا بشأن إعادة نشر كتاب هتلر "كفاحي"، وإذا كان سيؤدي إلى انبعاث النازية من جديد، وزيادة رقعة معاداة السامية؟ واستنادا إلى تقرير نشرته "إيلاف" من ألمانيا، فإن حقوق النشر للكتاب تنتهي في العام 2015، إضافة إلى أن "كفاحي" طبع عشرات المرات بعدد من اللغات منذ الثلاثينيات من القرن الماضي، ولم تدخر القوى النازية الألمانية والأوروبية جهدا في نشر الكتاب عبر شبكة الإنترنت.

إذن الجدل الجاري حاليا في ألمانيا لن يقدم أو يؤخر، لكنه يدل على المدى الذي تعاني منه المنظومة الثقافية المعاصرة من قيود لم يعد لها أي تأثير سوى الإرضاء السياسي لهذه الجماعة أو تلك، فالقارىء العادي لم يعد يمثل له "كفاحي" أي قيمة ثقافية لأن ما شهدته الحرب العالمية الثانية من كوارث شكل قطيعة واضحة لدى شريحة كبيرة في العالم مع تلك الأفكار التي تتوالد الآن في حاضنة أخرى تحولت فيها الضحية إلى جلاد.

معاداة السامية موضة هذا العصر، تلبس إلى من يشاء الخياط تفصيلها على مقاسه، ولأن الخياط هو ذاته فيمكن أن يكون من هم ساميون أيضا ضحية الخياط. مثلا أنا السامي الأصل والثقافة لا أفهم كيف أصبح معاديا للسامية، بينما ذلك الآتي إلي من خلف المحيطات له الحق أن يدين من يشاء.

لعبة التاريخ أيضا تدخل في إطار اهتمامات الحاذف، الذي يريد تشكيل الماضي كما يرغب الحاضر، وليس كل الحاضر، بل جماعة صغيرة تعرف من أين تؤكل كتف التاريخ ليصبح معاقا عدوانيا بيد واحدة يضرب أينما يشاء، ويحتمي بالتاريخ الذي يمنعه عنك.

التاريخ عند الحاذف هو ذاك الذي يمنحه القوة في أن يكون الوصي عليك، أو يحمي وصاية من يريدون أن يجعلوك قاصرا، خذ مثلا حين يمنعونك من الزواج ممن تحب لأنهم يرون أن حبك يخالف سلطتهم، هي في الواقع سلطة منحوها لأنفسهم، وشيدوا أسوارها حولك رغما عنك.

في لبنان مثلا حيث رقعة من الأرض تبلغ مساحتها 10452 كيلومترا مربعا تزدحم 18 طائفة، ويتجاور الحب والكراهية بين الطوائف، تؤدي السلطات الدينية دور الوصي على السلطة المتعاقد عليها الشعب، فأنت لن تكون لبنانيا مثلا إذا لم تمر في عدد من المصافي عبرها تتأكد لبنانيتك، تبدأ بمصفاة المنطقة وتنتهي بمصفاة الطائفة، وحين تصبح مواطنا كامل الولاء عليك أن تتحول إلى جندي للدفاع عن سلطة الوصاية الطائفية التي جعلت منك قاصرا شئت أم أبيت، وإذا أردت أن تحب عليك أن تبحث عن امرأة من طائفتك لتحبها، أو هي تبحث عن رجل من طائفتها ليحبها، ماذا إذا خرجتما على سلطة الوصاية؟

الخارجون على سلطة الوصاية الدينية يصبحون خارج لبنانيتهم، يصبحون أغرابا حتى على أسرهم، عليك أن تصبح قبرصي الولاء أو ما شئت من المواطنين في دولة اخرى، لساعات، فيها تنزع عنك عباءة الوصاية الدينية لتعقد قرانك، وحين تعود إلى لبنان عليك أن تدخل من بوابة المصفاة القانونية إلى حياتك العادية، لكنك تبقى ناقص اللبنانية. الحاذف هنا لا ينظر إليك بعين الرضا لأنك تحاول أن تحذفه هو عبر حذف دروه في تزويجك.

لكنك تصبح بعد قليل من ذلك حاذفا صغيرا في خدمة الحاذف الكبير، وتسترشد بوصيته الدينية حتى تصل إلى ما تريد، وعليك أن تقبل بكل الشروط التي يفرضها، بينما هو لا يغض النظر عن خطيئتك حين حذفته لساعات قليلة خارج لبنان.

ليس الحذف من التاريخ أو القبيلة وحده الذي يتحكم فينا، فهناك حذف الأوطان عبر حذف الناس من أوطانهم، في العالم كله تتحول الأوطان إلى ملاذات آمنة للمواطنين إلا في فلسطين فالأمان في الحذف، إذا قبل الفلسطيني أن يحذف من الوجود، من الوطن، أن يصبح قبيلة شاردة في أربعة رياح الأرض لكنه يصبح آمنا، لن ينغص عليه الحاذف حياته، لكن الحاذف يستند إلى التاريخ، وهذا التاريخ حمال أوجه، هو أقرب في تعابير زمننا هذا إلى "سيارة أجرة" يستقله من يدفع حتى يصل إلى مبتغاه، الحاذف والمحذوف هناك في تلك الأرض التي شهدت أول امرأة تعتمر الحجاب على رأسها في تاريخ البشرية يحاول الحاذف أن يستظل بكل شيء من أجل حذف الفلسطيني، يخرجه من ساميته، يدخله في دائرة التوحش المغلقة، يمنع عنه الهواء، يرميه إلى العطش، يفعل به ما يريد فالفلسطيني محذوف، وحتى لا يعود الحاذف إلى حاذفه الأول فالأخير يناصره ليبقى في أرضك يحذفك يصادر أحلامك وليلك ونهارك، ويتهمك زورا بأنك تقرأ "كفاحي" فأنت نازي جديد، أنت معاد للسامية، أنت السامي كيف تكون عدوا للسامية؟ إنها معادلة تحتاج إلى عباقرة في تحليل المغالطات للتوافق مع العقل، ورغم ذلك ممنوع عليك أن تسأل: كيف أكون عدو نفسي بينما الذي يقتلني ويحذفني يكون حريصا على نفسي وتاريخي وانتمائي أكثر مني؟

في الوقت الذي تتضارب فيه الأفكار بين الحاذف والمحذوف يلجأ الحاذف في مكان ما من العالم إلى مصالحة المحذوف، كيف يكون ذلك؟ من يفرض على الآخر سننه؟ أليس في العرف التجاري أن الصفقة تتضمن السيء والجيد، أنت حين تعقد صفقة ما تقبل بكل ما فيها، لا تشتري البضاعة الجيدة وتترك البضاعة غير الجيدة، وإلا لن تكون صفقة.

وفي الحوار بين اثنين للوصول إلى صفقة كل طرف يقدم بعض التنازلات ليتكيف مع الوضع الجديد، وفي بعض الفذلكات السياسية يسمى ذلك "تدوير زوايا"، أي يتحول الشكل الهندسي المعروف الزوايا إلى شكل دائري مجهول الزوايا، أي مجهول الأطراف، بمعنى آخر تندمج الزوايا وتصبح نقطة البداية هي نقطة النهاية. كيف يستقيم ذلك؟

أليس الإنسان بغريزته يعيش في وسط سلسلة لا تنتهي من التسويات، في الزواج ثمة تسوية، وفي التربية تسوية، وفي العمل تسوية، إذن أنت أيها المحذوف إذا لم تقبل بالتسوية التي يحددها الحاذف ستبقى مهددا بسيف مصلت لا تدري متى يهوي عليك، ودائما عليك الحذر من ارتعاشة تعب يد الحاذف، أو من ضجره، أو من نزواته.

تتميز الحيوانات عن البشر أنها اكثر رقيا في السلوك حيال أجناسها، ففي عالم الحيوان لا اغتصاب، يبقى الذكر يراود الأنثى عن نفسه مرات ومرات، وإن لم تخضع له أو تقبله يتركها ويمضي إلى شأنه، لكن الاغتصاب اختراع بشري بامتياز، وهو أيضا لعبة بين الحاذف (المغتصب) وبين المحذوف (الضحية)، أيضا السرقة اختراع بشري وفيها حاذف ومحذوف، وإذا أنعمت النظر في لعبة الحاذف والمحذوف لوجدت أن الكثير من السلوك البشري يقوم على هذه اللعبة التي عليك أن تحفظ قواعدها بامتياز أو عليك أن تقبل البقاء المحذوف أبدا. تقبل بكل ما يمليه عليك الحاذف، وليس في الرقابة على النص فقط، إنها لعبة تبدأ في مكان ما ولا تنتهي إلا في مكان آخر، تنتهي على عمق مترين من سطح الأرض حين يصبح الواحد منا محذوفا إلى الأبد.

 









شخصية العام

كاريكاتير

إستطلاعات الرأي