الأدب الرقميّ.. نحو تدشين فنّ غريب الأطوار!

2021-05-04

 بدعة جديدة نسبياً من الأدب، يتأثَّر بمدرسة الواقعيّة والشعر المرئيّ

ترجمة: شيرين ماهر

لا تزال الصورة الذهنيّة التي يكوِّنها القُرَّاء عن الشِعر والشُعراء مرتبطةً، في كثير من الأحيان، برؤية رومانسيّة للعبقريّة المُنسَلة من ذاكرة التعاطي مع العَثرات والإبداع الوليد تحت وهج الشموع.. والواقع أن هذه الصورة الذهنيّة ربَّما لم تعُد حاضرة في زمننا الرقميّ الحالي، فقد تحوَّل الشِعر اليوم إلى ما هو أبعد من مجرَّد نصّ.

لقد صارت هناك مفاهيم حداثية جديدة تربط بين جماليات الأدب والخوارزميات، وهو ما يُعرف بـ «الشِعر الرقميّ» و«روبوتات تويتر»، والصور المُركَّبة عبر «سناب شات».. باختصار، صِرنا نعيش الرقمنة بمختلف مناحيها، حتى أطلّ علينا «الشعر» من شُرفَة الحداثة.

«الشِعر الرقميّ»(1) الذي يُسمَّى بـ«الشِعر الإلكتروني» هو بدعة جديدة نسبياً من الأدب، يتأثَّر بمدرسة الواقعيّة والشعر المرئيّ الذي يعتمد على البنية البصريّة، حيث يتمُّ نظمه باستخدام أجهزة الكمبيوتر بصورةٍ شبة أساسيّة، إذ تبدو سماته وخصائصه مبهمة تماماً ومتداخِلة، نظراً لتداخلها مع أنماط أخرى من الأدب والفنون مثل النصّ التَشعُبي، الفنّ الإلكترونيّ، تقنية الهولوجرام المُجسَمة، الإنشاءات الفنِّيّة المُركَّبة والشِعر الصوتي. علاوة على آلية استخدام وتوظيف مقاطع الفيديو والأفلام.

كذلك تتمحور وضعية الشعر الإلكتروني فيما يخصُّ المساحة الفاصلة بين الكتابة الإبداعيّة وإعادة صياغة الترميز والفَنّ والعلوم الإنسانيّة الرقميّة. كما أن آليات عمله تنأى عن بنية الصحافة التقليديّة المُرتكِزة على الطباعة، ممّا يجعل عملية توثيقه والحفاظ عليه أمراً صعباً، وهو ما أكسب الشِعر الرقميّ سمة التآكُل والزوال السريع من الذاكرة النصّية، إلّا أن محاولات التوثيق الدقيق بإمكانها إنقاذ العديد من النصوص من التحلل التكنولوجيّ الحتمي بفعل الوقت.

من ناحيةٍ أخرى، لا يمكن إغفال أن هناك بعض الفَنَّانين لا يجدون غضاضة في أن تختفي أعمالهم بين عشيةٍ وضحاها، ممّا يجعل قصائدهم مجرَّد مُنتَج عابر على مستوى التصميم والغرض الأدبيّ.

ومع ذلك لايزال الشعر الرقميّ يواصل مسيرته في التلاعُب بالكلمات والنصوص، بل ويتطوَّر على صعيد الشكل والمضمون، خاصّة وأن بنيانه، ورموزه، وجماليّته تجعله، بشكلٍ أو بآخر، أكثر أهمِّية من الشعر التقليديّ بفضل مواكبته للواقع اللحظيّ المعيش، ومن ثَمَّ أخذت القصائد الإلكترونيّة تنأى عن الكلمات المُعتاد استخدامها في الدواوين المطبوعة، ممّا جعل الشعر الرقميّ بمثابة تجربة عميقة وملموسة ومواكبة للإحداثيات بصورةٍ يصعب إنكارها، حتى وإنْ لم ترقَ إلى نفس درجة الإبداع.

لقد جادل «رومان برومبوشز»، وهو موسيقيّ بولنديّ وفنَّان وشاعر حداثيّ، فرضية أنه في حالة الشعر السيبرانيّ، ينبغي على المرء أن يتجاهل مفاهيم الشعر المُنتمية للقرن التاسع عشر.

 وذلك انتصاراً لمبدأ التفكير -بصورةٍ أكثر إغراقاً- في سياق التفاعل بين الإنسان والكمبيوتر.. والسؤال الذي يطرح نفسه؛ كيف سيبدو القالب التفاعليّ بين الشِعر والتكنولوجيا بالضبط؟ وما الذي سيتمخض عن هذه التبادلية بين تلك الأطياف الإبداعيّة التي كانت في السابق وليدة الإلهام والخيال البشريّ دون تدخُّل الآلة؟.

كنزعة مثالية تُذكي من قيمة الانفعال البشريّ والعواطف الإنسانيّة، تقف بعض الدعوات في وجهة اقتحام الآلة لمضمار هذه الأنماط الإبداعيّة الحداثيّة، التي تظلّ مرتكزة، في الأساس، على مُخرجات المكنونات الحسيّة، إلّا أن الإيقاع الحياتي قد اختلف وأصبح يفرض واقعاً جديداً يستلزم المُواكبة.. يمكن التوقُّف عند «الشعر الرقميّ» البولنديّ كنموذج، حيث يُصنَّف «الشعر الرقميّ» البولنديّ، بصفةٍ عامّة، إلى فئتين؛ هما: فئة «الشعر الارتجاليّ» ذات المُحتوى المُواكب للأحداث والمواقف الآنية بحسب درجة الانفعال بها، وفئة «الشعر الأكثر ديمومة» المُرتبط بـ «محفِّزات النَظْم».

يتَّسم الشعر اللحظيّ وقصائد «سناب شات» والومضات أو «تويتر بوت»(2)، بالاستعراضيّة والمُحتوى الخفيف، ولا تتكئ قصائده على قواعد مُنظِمة لعملية النشر، إذ يُنشئ الشعراء الرقميّون منشوراتهم عبر وسائط جديدة وفريدة من نوعها، وأثناء تعديل قواعد منصَّات النشر، تَسهُل إمكانية التلاعب بهذه النصوص. وغالباً ما تركِّز قصائدهم الإلكترونيّة على المشاعر العابرة والمُرتبِكة.

ابتكر شُعراء الرقمنة أيضاً، ومنهم الشاعرة البولنديّة «ناتاليا كريزمنيسكي – Natalia Krzemińska»، منصَّات برمجة، يمكنها توليد توصيات بشأن الأفلام القصيرة بناءً على المُراجعات والقراءات الموجودة بالفعل. إذا يمكن قراءة مراجعة نقديّة لفيلم مكوَّنة من جملتين فحسب، بدلاً من المُراجعات المطولة المليئة بالتفاصيل. والمُثير للدهشة أنّ النُقَّاد أنفسهم أصبح ينتهي بهم الحال إلى التعامل أيضاً مع منصَّات «تويتر بوت».

هناك أيضاً «إيوا سوبوليوسكا – Ewa Sobolewska» التي تقوم، في الوقت الحالي، بإرسال بريد إلكترونيّ عشوائي على (Twitter) بواسطة قراءات وتحليلات لا نهائية تضعها على لسان الشخصيّتين الخياليّتين «شرِك والحمار»، بطلي فيلم الرسوم المُتحرِّكة الشهير «Shrek»، فيما يحظى حسابها على تويتر المُعنون بـ (SzrekoMania / ShrekMania) بأكثر من 3000 تغريدة والعدد في ازدياد، لدرجة أن مستوى التفاعل يدفع للتصوُّر بأنه ذات يوم سيقوم الأبطال الخياليّون (Shrek & Donkey) بالتحكُّم في ردود المُتابعين، بل والمنصَّة بأكملها.. لقد نفَخت الرقمنة «الروح» في فضاءات «الخيال الإلكترونيّ»..!!

أيضاً لدى كلٍّ من الشاعرتين «آنا باناسك – Anna Banasik» و«صوفيا جنيت – Zofia Gnat» وجهتا نظر مختلفتان عن وسائل التواصل الاجتماعيّ، حيث تعكف «آنا» عبر حسابها (flarfworld @) على «انستجرام»، المُعنون بكلمة «توهج»، على إعادة اكتشاف المشاعر المُتضاربة التي يكتنفها الغموض والإرباك، وذلك من خلال قصائدها الإلكترونيّة التي تقوم بإنشائها بواسطة مُكثِّف بحث «Google».

كذلك تنسج «صوفيا» قصص حب خياليّة، وتخلط، خلال سردها الشعريّ، ما بين أماكن الحياة الواقعيّة وصور تشبه سندات البورصة وأسهم الأوراق المالية، تماهياً مع مفهوم الصعود والهبوط الشعوريّ، في محاولة خلق روابط أدبيّة ابتكارية ذات مسحة واقعية مواكبة لإحداثيات العصر.

في المُقابل، يثير الشعر الإلكترونيّ على «سناب شات» مزاجاً غرائبياً. فعلى سبيل المثال، تنشر الشاعرة «Aldona Stopa» صوراً لشطائر (3)«Pierogi» التي (تتخذ شكل وجوهاً صغيرة مثل الإيموجي على فيسبوك)، وتضع بجوارها قصائد عاطفيّة تتماشى معها. تُوثِّق هذه الشطائر التعبيريّة الصغيرة، ذات الاقتباس الإلكترونيّ المأخوذ عن مواقع التواصل الاجتماعيّ، فترات مؤلمة وأخرى سعيدة وغيرها غاضبة أو قلقة – كلّ ذلك في سياق الشطيرة التي تحمل الإيموجي المُعبِّر عنها وفق التلازُم الشعريّ الجديد الذي ربط بين المعنى والصورة والرقمنة.

هناك أيضاً مولدات القصائد، وهي أيقونات تَنْظِم قصائد وفق مُدخلات المُستخدِم. هذه القصائد تمزج بين تقنية الوسائط الجديدة واللُّغة المُخلَّقة، إذ تُستخدَم برمجة الكمبيوتر في حياكة النصّ وتوليد معانيه من خلال الاستناد إلى خوارزميات تعتمد على آلية فهم اللُّغة. فهناك فنَّانون، أمثال «كاترزينا جيتسينيسكا – Katarzyna Giełżyńska» ابتكروا شعراً إلكترونيّاً يمزج بين الفَنّ الشبكي والرسوم المُتحرِّكة، حيث استخدمت «جيتسينيسكا» في شعرها ما يُعرَف بفَنّ الأخطاء الإلكترونيّة (4)«glitch art»، بالارتكاز على استخدام الخوارزميات واستدعاء المُحتوى الموجود بالفعل، فضلاً عن فكرة «القص واللصق».

أمّا مشروع الشاعر «غريغ ماروسينسكي» المُسمَّى «مشروع بيسوس»، فهو بمثابة احتفاء بالشخصيّة التليفزيونونيّة البولنديّة الشهيرة «ماجدا جيسلر»، النجمة المحبوبة ومقدِّمة برنامج الطهي البولنديّ الشهير «Kuchenne Rewolucje» (النسخة البولنديّة من برنامج الطهي العالميّ «MasterChef» -حيث ساعدتها شخصيّتها المُتوهِّجة وعلامتها التجارية الشهيرة (taglineshelped) على حشد عدد كبير من المُتابعين. كان «ماروسينيسكي» من بين هؤلاء المُتابعين لبرنامج «جيسلر»- حيث عكف في مشروعه على استدعاء عالَم مصغَّر لـ«جيسلر» بالاستعانة بمولد (5)«HTML»؛ ممّا أسهم في إنتاج مغامرات لا نهائية مع الشيف «ماجدا جيسلر» مزودة بنصوص متغيِّرة ومتنوِّعة باستمرار.

وعن «ليسيزيك أوناك» ومولده الإلكترونيّ المُعنون بـ«الفوز»، فهو يعتمد على أخبار المشاهير وقصصهم، بل ويركِّز تحديداً على المشاهير العالميّين الأكثر إثارة للجدل؛ مثل نجم الأكشن في التسعينيّات «ستيفن سيغال»، والمُمثِّل المسرحيّ الساخر «تشارلي شين»، والمُنتج ومغني الراب «كاني ويست»، وكذلك صاحب شركات الأدوية السابق «مارتن شكريلي»، حيث يعمل مولد النصّ الخاص بـ«أوناك» على خلط تويتات المشاهير مع بعضها البعض. ما يفعله مولد النصوص هو أحد أشكال العبثيّة والسخرية، وغالباً ما يكون المُحتوى عاكساً لمدى الاعتلالات الاجتماعيّة التي يعكسها البعض.

هناك أيضاً دار النشر «Wydawniczy Rozdzielczość Chleba – روزدزيلتشوي شليبا»؛ وهي عبارة عن مركز للنشر تمَّ إنشاؤه بواسطة كلٍّ من «ليسيزك أوناك»، «لوكاس بودجرنيه»، «بيوتر بولدزيان». وكان قيد العمل خلال الفترة من 2011 وحتى 2018. وهي منشأة معنية بإنتاج محتوى اجتماعيّ تكنولوجيّ. نشرت دار «روزدزيلتشوي شليبا» العديد من المجلَّدات الشعريّة. كذلك قامت بنشر روايات صغيرة ومقتطفات وعينات من تشكيلات الكلمات الخاصّة بعالَم ريادة الأعمال، فعلى سبيل المثال كانت شركة «Firmy» تبحث عن أسماءٍ مبتكرة ومبهجة للشركات البولنديّة المُسجَّلة التي غالباً ما تنتهي بكلمة «pol» أو «ex».

كذلك قامت الدار بنشر قصائد بعنوان «Pamiętne Statusy/ حالات لا تُنسى» – وهي مجموعة من المُلاحظات الفريدة من داخل عصرنا الرقميّ الحالي. يروي «لوكاس بودجرنيه»، أحد مؤسّسي الدار: «يمكن استلهام العديد من التجارب الغريبة، إذا ما كنت أحد مستخدمي وسائل التواصل الاجتماعيّ ومُلمّاً بكيفية التعامل معها»، حيث تتلاعب قصائد «بودجرنيه» بأنواعٍ مختلفة ممّا يعرف بـ«فنّ ما بعد الإنترنت»، وهو المزج بين فنّ الأخطاء الإلكترونيّة وفنّ تصميم الواجهات التفاعليّة وفنّ التفاعل البصريّ والموسيقيّ في آنٍ واحد. يستخدم «بودجرنيه» نصوصاً مشتقة من يوميّات (فيسبوك)، ممّا يدل على أن وسائل التواصل الاجتماعيّ يمكن أن تخلق طبقة خادعة (قابلة للتذكّر) من جانب المشاهير الزائفين. فغالباً ما تكون أنماط الشعر الإلكترونيّ غريبة وغامضة، ويمكن أن تخلق سُبلاً لإعادة التعامل مع التكنولوجيا؛ يمكنها أن تكون أيضاً الخطوة الأولى نحو تدشين فنّ رقميّ غريب الأطوار.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

أولجا تيسكيفيتش

المصدر:

https://culture.pl/en/article/emotional-pierogi-loaves-of-literature-polish-digital-poetry

الهوامش:

1 – الشعر الرقميّ: كلّ شكل شعريّ يستعمل الجهاز المعلوماتيّ وسيطاً ويوظِّف واحدة أو أكثر من خصائص هذا الوسيط.

2 – تويتر بوت: نوعٌ من البرمجة التي يتمُّ التحكُّم فيها من خلال واجهة برمجة التطبيقات. تعملُ حسابات البوت هذه على تنفيذ مجموعةٍ من الإجراءات مثل التغريد، إعادة التغريد، الإعجاب، إلغاء متابعة أو حتّى المُراسلة المُباشرة معَ حسابات أخرى. وتحكمُ هذه البوتات مجموعة من القواعد لتفادي سوء الاستخدام.

Pierogi -3: أحد أشهر الفطائر في دول وسط وشرق أوروبا.

4 – glitch art: تقنية إلكترونيّة تعتمد على استخدام الأخطاء الرقميّة أو التناظرية لأغراضٍ جماليّة.

5 – HTML: لغة ترميز النصّ التشعبيّ، وهي لغة الترميز القياسيّة لإنشاء صفحات الويب. وتصف بنية صفحة الويب.








كاريكاتير

إستطلاعات الرأي