تغييب المُنطلقات الوطنية.. مراكِب بلا أشرِعة
2019-09-28
بسام رجا
بسام رجا

يتردَّد كثيراً مفهوم "الفكر السياسي" الفلسطيني وما أفرزه من عوامل أسهمت في بناء الشخصية الوطنية الفلسطينية عبر عقود الصراع مع كيان الإحتلال. وينسج في هذا المفهوم تشابكات المراحل التي مرّ فيها الفكر السياسي وتطوّره في صوغ الثوابت الوطنية التي قدَّمت على أساس معرفي يهدف إلى بناء الشخصية الوطنية الفلسطينية.

ومن مراجعة ما كتب يمكن أن ندقِّق في ثوابت عدّة أسهمت في إغناء مسيرة العمل الوطني الطويلة. وينظر إلى المرحلة التي سبقت العام 1948 على أنها شهدت تأطيراً نظرياً وعملياً للشخصية الوطنية في مواجهة الإنتداب البريطاني والعصابات الصهيونية وأن هذه المرحلة حملت خصوبة سياسية وفكرية، وإن لم تكن منظمة في حدِّها الأعلى، لكنها بلوَرت ملامح الشخصية في تطوّر الوعي وبناء مُقدّرات معرفية ـ وطنية وفق الإمكانيات المُتاحة لمواجهة المشروع الصهيوني.

جاء العام 1948 ليكون مفصلياً مع تشريد الشعب الفلسطيني من أرضه، ومع حالة البحث الدؤوب لبناء وعي معرفي يستشرف المستقبل وآليات المواجهة. وبالطبع هنا لا يحصر الفكر السياسي في ما كتب من دراسات فكرية واكبت مرحلة اللجوء وسجّلت وقائعها ـ إنما يسجّل لمَن أسهموا في تكريس مفاهيم وطنية في سياق المواجهة من أدباء على رأسهم الشهيد غسان كنفاني وغيره كثر.


أسوق المُقدِّمة للبحث في أسباب التراجُع الذي تفشّى في المفاهيم الفكرية السياسية الوطنية، بل إنقلاب الصورة حيث أصبح الحديث عن الوطنية والوطن محصوراً أو أسير مُصطلحات عمّمت بعد طرح البرنامج المرحلي في العام 1974 أن الدولة المستقلة هي الضفة وغزّة. وما سبق ذلك نوعاً من الرومانسية واللاواقعية.

هنا يظهر التراجُع في الفكر السياسي الفلسطيني الذي لم يكن مُجرَّد حالة ضعف بل تنظيراً "للواقعية" التي اعتبر مُنظّروها أنها العتبة الأولى لنَيْل الحقوق الوطنية. وهذه العتبة هي أخطر ما شهده الواقع الوطني الفلسطيني الذي فرض عليه تراجعاً مفهومياً وطنياً كارثياً سنشهد نتائجه على كل ما سيأتي في مسيرة الكفاح الفلسطيني.

استبدل المفهوم الثوري والكفاحي الوطني الفلسطيني بفكرٍ سياسي لاقى مَن يروّج له من تنظيمات يسارية فلسطينية وتلقّفته حركة فتح ليصبح شعاراً للمرحلة القادمة.

هذا الشرخ الكبير في جسد المقاومة الفلسطينية وما طُرِح من برامج وطنية فلسطينية ـ وتنظير فكري جعل الشارع الفلسطيني في دوَّامة تجاذًبات سياسية واصطفافات حزبية أدخلته في تشتّتٍ فكري.

ربما نستطيع القول إنه التجذيف باتجاه تخلّص القيادة الرسمية لمنظمة التحرير الفلسطينية من أيّ حَرَج سيشهده الفكر السياسي الفلسطيني لترويج طروحات عن موازين القوى وانتهاز الفُرَص لتصبح (م ـ ت ـ ف) في موقع يمنحها مرونة وحضوراً للتفاوض باسم الشعب الفلسطينيي. وتكبر كرة الثلج وتأخذ معها كل التبريرات التي نُظّر لها لإمكانية بناء دولة مستقلّة وعاصمتها القدس ـ ويصبح اللُهاث وراء هذه المفاهيم هو المُخيِّم على ساحة العمل الوطني الفلسطيني، لنصل إلى كارثة التدمير الذاتي في اتفاق أوسلو الذي أدخل القضية الفلسطينية في نفقٍ مظلمٍ وفرض تنازلات خطيرة على مستقبل قضية فلسطين واللاجئين الذين حملوا على أكتافهم المشروع الوطني بكل تجلّياته.

التنظير الفكري السياسي وانحداره تجاوز توقيع اتفاق (أوسلو) في 13 أيلول/سبتمبر 1993 باعتباره "إنجازاً وطنياً"، بل انسحب على بعض "النُخَب" التي نظّرت إلى أن الواقع يحتاج إلى أن تحني رأسك للعاصفة.

ويبدو أن عواصف التنازُل قد ضربت كثيرين أصبحوا في عداد مَن يرى بالعمل المقاوِم انتحاراً وسذاجة وطنية ـ وكأن المراحل التي مرّ فيها الكفاح الوطني وما كرّس من فكر سياسي رسّخ مفهوم الوطنية والهوية مُجرّد مُصطلحات عفا عليها الزمن. هذا التنكّر للتاريخ والهوية الوطنية الجامِعة على أهداف استراتيجية في ثوابت الوطن والأرض أصبحت تدخل في سياق قاموس الماضي ـ وكأن تاريخ الحركة الوطنية الفلسطينية وما شهدته من مُنتدياتٍ وتجمّعاتٍ وطنيةٍ وحزبيةٍ سياسيةٍ "ترفاً" لا يرتبط بقراءة وطبيعة الاستحقاقات القادمة إن مرّر المشروع الصهيوني. ولا شك أن الصحوة الفكرية والوطنية الفلسطينية كانت سابقة للمواجهة على أرض فلسطين.

في راهننا اليوم ورغم كل ما حصل من شروخٍ عميقةٍ في الجسد الفلسطيني وانعكاسات الواقع الرسمي العربي وسياسات بعض الأنظمة للتخلّص من فلسطين وشعبها ـ قد فشل فشل ذريعاً. وأحيل ذلك إلى الكتابات والمؤتمرات الصهيونية التي تقرأ في أن الشعب الفلسطيني في غزَّة والضفة والقدس وأراضينا التاريخية في العام 1948 لم يتأثّر في كل ما حصل من تراجُعٍ فكري سياسي. ورغم الإتفاقات مع النظام الرسمي العربي ومحاولات التطبيع.. وكيّ الوعي العربي لم ينكفئ الشعب الفلسطيني عن التشبّث بهويته الوطنية وصاغ فكراً سياسياً فلسطينياً راسِخ الجذور ومُنتمياً للأصول.

هذا ما يقرأ اليوم ويعتبره كيان الاحتلال أنه الأخطر على مستقبله. ويراقب عن كثب أن الجيل الفلسطيني الذي شهد انتكاسات وحروباً وتفوّقاً نوعياً لكيان الإحتلال أفرز نُخباً فكرية مقاوِمة بل شديدة الصلابة.

هذا ما أشارت إليه صحيفة "هآرتس" بعد استشهاد المقاوِم المشتبك باسل الأعرج بقولها: "إن جيل باسل الأعرج لديه فكر سياسي ينتمي إلى مراحل لم نكن نتوقّع أن تظهر". ما ينسحب على مئات الشهداء الشباب مثل نعالوه والتلاحمة وغيرهما.

التراجُع الفكري السياسي الذي غزا الجسد الفلسطيني وفق مراحل البحث عن حلولٍ تستجدي أميركا ـ وإن حفر مساربه وخلط الأوراق، لكن ذلك لم يجعل الفلسطيني تائهاً في سياسات عرجاء لا أفق لها. وهذا بدا في ما وصلت إليه السلطة في رام الله بعد أن دخلت غمار التفاوض. انظر أين أصبح "مشروعها الوطني" الفلسطيني.

ما يقدّم اليوم على أنه مواجهة في سياق طويل ومكاسرة "إرادات" لا يعكس أبداً رأي الشارع الفلسطيني حين يرى بأمّ العين إلى أين وصلت الاستباحات الصهيونية. وحين نذهب إلى مفهوم مكاسرة الإرادات يجب أن نستند إلى شارعٍ مقاوِمٍ يرفض كل الانزياحات والانكسارات التي حصلت في مسيرة الصراع العربي- الصهيوني وهذه الانزياحات تركت ندوباً غائِرة وتحتاج إلى مبضع جرّاح يُعيد بناء البيت الفلسطيني في وحدة تستند إلى فكرٍ سياسي وطني خلاّق يستعيد الثوابت التي انطلقت دونها منظمة التحرير الفلسطينية.

الوحدة واستعادة البناء الوطني الكلّي وإعادة البريق لفكرٍ سياسي خلاّق يأخذ بالثوابت الوطنية هو قارب النجاة الوحيد الذي يُرمِّم الشروخ. والمقاومة التي لا تُهادِن في الضفة وغزّة والقدس وفلسطين 1948 والشتات هي متراس الفكر المقاوِم الذي لا يهدأ.

لم يعد هناك في ظلّ ما تشهده الساحة الفلسطينية والانعكاسات الإقليمية والدولية على قضية فلسطين من مخرجٍ أو تشاطر في إعادة التجارب التي أنهكت فلسطين إلا المقاومة لشعبٍ هُجّر من أرضه منذ 72 عاماً. شعب يجترح المُعجزات في مقاومته اليومية ـ ولم يكن يوماً يلتفت إلا للعودة إلى أرضه ولم يفكّر بالتوطين مهما علت المكاسب.

الوحدة الحقيقة هي وحدة الميدان ووحدة البندقية ونحن في مواجهة مشروع صهيونيـ أميركي بأموالٍ عربيةٍ لتصفية قضية فلسطين.

هل من مخارج أخرى سوى أن نُعيد الاعتبار للمُنطلقات النظرية لمنظمة التحرير الفلسطينية التي عبَّرت عن قضية شعب هُجِّر من أرضه وغادرت الأمّهات والآباء وهم يقبضون على مفاتيح لن تصدأ؟.

كل الشهداء ووصاياهم كانت أن فلسطين هي كامل التراب.. وليس رومانسية وضرب من الخيال أن يأتي اليوم الذي سيُهزَم فيه الغُزاة في أرض لا تعرف سوى عشّاقها.

*كاتب واعلامي فلسطيني

 



مقالات أخرى للكاتب

لا توجد مقالات أخرى للكاتب





كاريكاتير

إستطلاعات الرأي