تحولات لبنان والمنطقة وحركة "الثورة المضادة"  
2025-02-01
رفيق خوري
رفيق خوري

 

يخوض لبنان معركة الفرصة الأخيرة على جبهتين متكاملتين: إنهاء مشاريع الحروب المفروضة عليه في صراع أكبر منه، وبدء الخروج من هاوية الأزمات العميقة المصنوعة بقوة مافيا حاكمة ومتحكمة سياسياً ومالياً وميليشيوياً فوجئت بسقوط حواجز منعت بناء مشروع الدولة، والمعركة ليست قصيرة ولا مجانية ولا من دون ممانعة ولا ذات بعد واحد، وهي، فوق ذلك، جزء من معركة أكبر للتحولات في العالم العربي الذي يستعيد موقعه ودوره في الصراع الجيوسياسي الإقليمي والدولي.

وأقل المطلوب من اللبنانيين المتفاعلين مع التحولات الهائلة في المنطقة هو ألا يستسهلوا كالعادة مسار العمل الداخلي وعقباته المألوفة، مهما يكن الدعم الخارجي قوياً، فليس فك الأسر عن الجمهورية على مدى أعوام سوى بداية نقلة يواكبها الجمهور النشط، وتمتحن قدرة الجمهورية على أن تكون أو لا تكون بعدما اقتربت المؤسسات من الانحلال، ولا وصول العماد جوزاف عون من قيادة الجيش في اليرزة (بلدة لبنانية تضم مقر وزارة الدفاع) إلى القصر الجمهوري، والقاضي نواف سلام من رئاسة المحكمة الدولية في لاهاي إلى السراي الحكومية على رأس موجة تغيير قوية، تنهي سياسة التعطيل التي زادت من حدة الأزمات، وهي سياسة لاعبين مسلحين باتوا خائفين على خسارة ما كسبوه بالقوة و"السلبطة" أيام الوصاية السورية ثم الإيرانية، ويعملون بالوسائل المعروفة للإيحاء بأنهم لا يزالون مخيفين.

ذلك أن المتغيرات الجيوسياسية والإستراتيجية في لبنان والمنطقة جاءت سريعة وعميقة بأبعد من مفاعيل ما حدث في حرب غزة ولبنان وسقوط نظام الأسد في سوريا وانحسار النفوذ الإيراني ومعه إستراتيجية "وحدة الساحات" و"محور المقاومة الإسلامية" والمشروع الإقليمي لجمهورية الملالي. كانت التحولات أسرع من قدرة المتحمسين لها والمقاتلين ضدها على اللحاق بها حتى في مجال الأفكار، وكانت أعمق من القراءات الأولى والثانية في التطورات الدراماتيكية.

ولا يزال الذهول يملأ المشهد، شيء مما ينطبق عليه قول لينين "هناك عقود لا يحدث فيها شيء، وأسابيع تحدث فيها عقود"، وشيء من الحسابات التي انقلبت على أصحابها، من حيث تصوروا أن عملية "طوفان الأقصى" يوم السابع من أكتوبر (تشرين الأول) 2023 على يد "حماس" وما تبعها من حرب "إسناد" لغزة على يد "حزب الله" وحرب الحوثيين لإغلاق البحر الأحمر ومسيرات الفصائل العراقية المرتبطة بالحرس الثوري الإيراني، هي بداية التحرير لفلسطين من البحر إلى النهر، وهي تحقيق على الأرض لما أعاد المرشد الأعلى علي خامنئي التذكير به يوم الثالث من أكتوبر 2023 من توصيف الإمام الخميني لإسرائيل بأنها "خلية سرطانية" ثم دعوة خامنئي إلى "إزالتها على أيدي الشعب الفلسطيني والمقاومة في المنطقة".

وما كان من المفاجآت أن يدعو خامنئي إلى مقاومة الوضع الجديد في سوريا بعد سقوط الأسد، والتأكيد أن طهران ستستعيد ما خسرته في دمشق والمنطقة، بماذا؟ بنوع من "الثورة المضادة" للتغيير، وإعادة تسليح الفصائل التي تعرضت لضربات قوية وتنشيط دورها، كأن المتغيرات لم تحدث، أو كأنها مجرد حادثة سيارة يسهل تصليحها، ولم يكن خارج التوقعات المقرونة بالوقائع أن يلعب "الثنائي الشيعي" دور حركة "الصد" في مواجهة موجة "الدفع" والتغيير، فالعادات القديمة عنيدة كما يقول المثل. والانتقال من الاستكبار والهيمنة والفرض على أكثرية اللبنانيين إلى المشاركة مع المكونات الأخرى رياضة سياسية صعبة على "حزب الله" و"حركة أمل"، لا بل إن الحرص على المشاركة جرى تزوير النظرة إليه واعتباره محاولة "إقصاء".

 والممارسة واحدة، إيران دفعت شباب "حزب الله" إلى الموت في معارك الدفاع عن الجبهة الأمامية للجمهورية الإسلامية وشعارات تحرير فلسطين. و"حزب الله" أخذ أهالي القرى الجنوبية إلى مواجهة الدبابات وعدو متوحش لا يرحم ولا يتورع عن إطلاق النار وإسقاط ضحايا في صفوف الأهالي المدنيين، لكي يثبت أنه قوي وحاضر، ويبعث بالرسائل إلى الداخل قبل الخارج، وقمة الاستفزاز والاستهتار باللبنانيين الذين حضنوا بيئة "حزب الله" المهجرة، كانت إرسال مجموعات على "الموتوسيكلات" تجوب المناطق والأحياء المسيحية والسنية وهي تهتف "شيعة شيعة شيعة".

لكن موجة الدفع والتغيير أقوى في النهاية من حركة الصد، فالتحولات الهائلة تأخذ مكانها في الواقع الميداني والسياسي، والكل يعرف وإن رفض البعض الاعتراف، أن دور "الساحة" في لبنان وصل إلى طريق مسدود في لعبة انتهت، ولا مهرب من بناء الدولة الوطنية في لبنان العربي المدعوم من الأشقاء العرب والأصدقاء الدوليين.

 في كتاب "دعنا نحلم: الطريق إلى مستقبل أفضل" يستشهد البابا فرنسيس بقول الشاعر هولدرلن "حيث الخطر هناك دائماً قوة إنقاذ تكبر"، ولبنان يستحق قوة إنقاذ جاءته تحوّل الخطر إلى فرصة، ولا أحد يستطيع بعد الآن إعادة الوطن الصغير إلى الأسر والخطر.

 

*هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن موقع الأمة برس- الاندبندنت عربية



مقالات أخرى للكاتب

  • لبنان اللبناني والعربي والدولي  
  • صار للبنان رئيس وبقي بناء الجمهورية
  • من غنيمة حزب إلى غنيمة حرب  






  • كاريكاتير

    إستطلاعات الرأي