
في الشأن الأميركي يلعب الإعلام والصحافة دورا ضخما جدا في الحياة اليومية ويتجاوز تأثيرها حدود أميركا أيضا.
وفي الانتخابات الرئاسية الأميركية التي تعتبر حدثا كبيرا لوسائل الإعلام، غالبًا ما تدعم الصحف الأميركية المرشحين الرئاسيين كجزء من عملية التحرير الخاصة بها، والتي تختلف عن تقاريرها الإخبارية.
وتحتوي الصحف على هيئات تحريرية تعبر عن الآراء بشكل منفصل عن محتوى الأخبار الذي يجب أن يتصف بالحياد والاستقلال. وتحلل هذه المجالس القضايا والمرشحين للرئاسة، بهدف توجيه القراء بناءً على قيم الصحيفة وموقفها التحريري.
ويعتبر تأييد المرشحين تقليدًا قديمًا في الصحافة الأميركية وهو مستمر منذ عقود، ويعكس مشاركة الصحيفة في الخطاب السياسي ودورها كقائد فكري مجتمعي.
ويوفر التأييد للقراء نظرة أخرى وإرشادات مفيدة وخاصة لأولئك الذين لم يحسموا أمرهم والمستقلين أو من يسعون للحصول على آراء مختلفة حول قضايا كبرى قبل يوم الانتخابات.
وعادة تجادل الصحف التي تختار مرشحا عن آخر، بأن اختيارها هو تعزيز للشفافية ويمكن محاسبتها على آرائها من قبل قرائها.
واشتهرت صحيفة نيويورك تايمز بتأييدها المؤثر للمرشحين الرئاسيين، حيث أيدت كامالا هاريس في السباق الرئاسي الحالي. وأيدت جو بايدن في الانتخابات الرئاسية لعام 2020 لكنها كانت هي رأس الحربة التي دفعته للانسحاب من السباق الرئاسي بتغطيتها المكثفة، وهذا دليل على أن التأييد لا يعني مطلقا الانحياز.
كما أيدت صحيفة واشنطن بوست أيضًا جو بايدن في انتخابات عام 2020. وامتنعت وول ستريت جورنال عن تأييد أي من المرشحين لتواصل تقليدا حافظت عليه طويلا. وانحازت لوس أنجلوس تايمز لجو بايدن في عام 2020. أما صحيفة يو إس إيه توداي فاشتهرت تاريخيًا بعدم تأييد المرشحين الرئاسيين، إلا أنها قامت باستثناء نادر في عام 2016 عندما عارضت ترامب ولم تأييد هيلاري كلينتون لكنها في عام 2020 أيدت جو بايدن بحجة الحفاظ على الديمقراطية.
هذه التأييدات والمواقف المختلفة للصحف تسلط الضوء على كيفية تعامل الصحف ووسائل الإعلام المختلفة مع المرشحين الرئاسيين في مواسم الانتخابات، مما يعكس فلسفاتها التحريرية واعتبارات القراء، ومؤخرا ما هو أكبر وهو تداخل المصالح.
وكان قرار صحيفة واشنطن بوست بعدم تأييد كامالا هاريس للرئاسة في عام 2024 بإيعاز من مالكها جيف بيزوس، الذي وجه الصحيفة بعدم نشر التأييد بعد أن كان جاهزا للنشر بمثابة صدمة للصحيفة.
وتم تفسير هذا المنع من أجل الحفاظ على الاستقلال التحريري وتقديم أخبار غير حزبية، بهدف تمكين القراء من تكوين آرائهم الخاصة.
وذكر ناشر الصحيفة والرئيس التنفيذي ويل لويس، أن هذا النهج يتوافق مع قيم مثل الشخصية والشجاعة واحترام الحرية الإنسانية، مشيرا إلى أنه لن يكون هناك تأييد من قبل الصحيفة لأي مرشح في الانتخابات المستقبلية أيضًا.
وبالطبع في موسم انتخابي حاسم ووسط انقسام أميركي شديد أثار القرار موجة غضب عارمة خصوصا تدخل جيف بيزوس مالك صحيفة واشنطن بوست، بشكل مباشر لوقف نشر التأييد.
وتسابق المنتمون للحزب الديمقراطي إلى إلغاء اشتراكاتهم في الصحيفة. كما عبر النشطاء عن مخاوفهم بشأن الحرية التحريرية وتأثير الملكية ورجال المال والأعمال على القرارات التحريرية للصحيفة التي يفترض أن تكون مستقلة عن أي تأثير. ورأى البعض أن القرار انحراف عن الدور التقليدي للصحيفة الكبيرة، وخاصة في ضوء تأييداتها التاريخية وشعارها "الديمقراطية تموت في الظلام".
وظهرت تقارير تتحدث عن غضب واسع من الموظفين، بما في ذلك الاستقالات التي بدأت في الظهور بخلاف تصريحات من نقابة واشنطن بوست التي أعربت عن قلقها بشأن تدخل الإدارة في القضايا الاعلامية وخيبة الأمل إزاء الافتقار الملحوظ إلى الالتزام بالقيم الديمقراطية.
وأعلن روبرت كاجان كبير المحررين في الصحيفة وهو شخصية كبيرة ومؤثرة استقالته احتجاجًا على عدم الإعلان عن تأييد هاريس وربما تلحقه استقالات أخرى. وعلق بأن هذا القرار اتخذ لإرضاء ترامب، مشيرًا إلى أن مالك الصحيفة، جيف بيزوس، ربما تأثر بمصالح تجارية أو ضغوط سياسية.
والحق يقال كان هذا القرار مفاجئًا جدا وأعاد إحياء المناقشات الواسعة التي بدأت عندما سيطر ماسك على منصة إكس تويتر سابقا والتي طالبت بضرورة تحييد منصات التواصل الاجتماعي والصحافة من هيمنة رجال الأعمال. وحذروا من دور مالكي وسائل الإعلام في اتخاذ القرارات التحريرية، وضرورة التوازن بين الاستقلالية ونفوذ الشركات ورجال الأعمال.
ومن وجهة نظري أن الصحيفة اتخذت خطوة مهمة في سبيل تحقيق التوازن في تغطيتها الصحافية واستعادة الثقة فيها بعد أعوام من الفوضى التي عانت منها مؤخرا بخلاف الانتقادات التي تطالها بسبب عدم وضوح رؤيتها وفشلها في التحول الرقمي وغيرها. والتساؤلات المطروحة هنا هل الصحيفة تعمل على إعادة تموضعها والرجوع إلى الوسط بعد أن أصبحت المنفذ الإخباري الرئيسي لليساريين؟
أو أن جيف بيزوس القطب المالي الثاني في العالم يريد إيصال الرسالة لترمب بأن مجتمع المال والأعمال قرر أخير الوقوف مع ترمب؟ وتلك قصة أخرى بدأها إيلون ماسك.
*صحفي سعودي مقيم في واشنطن
*هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن موقع الأمة برس - االعربية -