أنطونيو غوتيريش... رجل المواقف الواضحة
2024-04-18
نبيل فهمي
نبيل فهمي

قضيت نسبة كبيرة من رحلتي الدبلوماسية والسياسية ممارساً ومتابعاً للتطورات الدولية، مؤمناً بأن منظومة الأمم المتحدة وميثاقها ومؤسساتها التي أنشئت أساساً بعد الحرب العالمية الثانية من أجل منع تكرار الحروب العظمى، هي أفضل السبل المتاحة وأكثرها مراعاة للمصلحة العامة للمجتمع الدولي، ومقتنعاً بأن العلاقات والترتيبات المتعددة الأطراف هي الأكثر عدالة مقارنة بالعلاقات الثنائية لأنها تراعي مصالح كثير من الدول، وتوفر للدول المتوسطة والصغيرة ساحة أكثر توازناً لأنها تجمع أكثر من دولة، وتستند إلى إطار وقواعد وقوانين عامة، مما يعالج جزئياً التوازنات المخلة لمصلحة الدول الكبرى والأكثر ثراء في التعاملات الثنائية، لذا فضلتها على رغم ما يصاحبها من صعوبات إدارية مرتبطة بكثرة المشاركين وتنوع المصالح.

وكنت على يقين دائماً أن أعمال تلك المؤسسات المتعددة الأطراف تتأثر بتنامي أو تدهور وتوتر العلاقات بين الدول، وإن كنت أختلف جوهرياً مع الذين يرون في هذه التوترات مبرراً مقبولاً لتباطؤ أو تعثر المنظمات المتعددة الأطراف في التعامل مع الأحداث الجسام وذريعة لعدم المبادرة والتحرك، بل العكس هو الصحيح، ومهمات ومسؤوليات تلك المنظمات أو المؤسسات تزداد وتتضاعف أهمية كلما اشتدت الأزمات والصدامات.

وأؤمن بأن رؤساء المنظمات المتعددة الأطراف يتحملون مسؤولية جسيمة وسامية في رفع راية المنظمة والتمسك بأهدافها في أفضل الظروف وأصعبها، منطلقاً من أن مواثيق المنظمات وقواعد عمل المنظمة الأم الحاكمة وهي الأمم المتحدة تحدد القواعد العامة للعلاقات الدولية وتعطي لرئيسها وهو الأمين العام للأمم المتحدة مساحة للحركة والمبادرة.

وشهدنا كثيراً من الاقتراحات تقدم ممن تولوا هذا المنصب في بداية كل دورة سنوية للجمعية العامة للأمم المتحدة، حتى قبل اتفاق الدول حولها وإصدار قرارات من هيئات المنظمة في شأنها، علماً أن  الأمين العام يتابع هذه المبادرات بجهود دبلوماسية بعد ذلك سعياً إلى تبني أكبر عدد من الدول مبادراته ليتسنى إصدار قرارات تنفيذية من المؤسسات في شأنها.

ويتجاوز دور الأمين العام مجرد طرح هذه المبادرات ليشمل القضايا والأحداث السياسية الحساسة والخطرة، إذ ترخص له المادة 99 من  ميثاق الأمم المتحدة طرح القضايا التي يرى أنها تحمل أخطاراً على الأمن والسلم الدوليين على مجلس الأمن.

أي إن الأمين العام ورؤساء المنظمات المماثلة من حقهم، بل من واجبهم، المبادرة وتقديم الاقتراحات بحسب تقديرهم أهمية وخطورة الأمور باعتبارهم مفوضين من الأعضاء في تحقيق أهداف المنظمات، ويجب أن تكون لتلك القيادات الشجاعة والحكمة للتصدي للأحداث والتحرك منفردين حتى قبل التشاور مع الأعضاء إذا لزم الأمر.

وأتذكر أنني تابعت عمل الأمين العام للأمم المتحدة الحالي أنطونيو في مناصبه السابقة بالمنظمة، واهتممت بما قاله لي شخصياً خلال حملته الانتخابية لولايته الأولى، بخاصة ما شرحه عن الأولوية التي يعطيها لتفعيل دور الأمم المتحدة السياسي لحل المنازعات واهتمامه بتطوير المنظومة الدولية لتكون أكثر عدالة ومراعاة لمصالح دول العالم كافة.

ومع انتخاب غوتيريش كنت متطلعاً لرؤية الأمين العام يتحرك على غرار من تحملوا هذه المسؤولية في العقود الأولى للمنظمة الدولية، وعلى رأسهم تريجفي لي وداغ همرشولد، لقناعتي وإيماني بأن دور رؤساء المنظمات المتعددة الأطراف ليس في إدارة المنظمات فحسب، بل في توجيه الدفة لتأمين التزام أعضائها تحقيق أهدافها السامية واحترامهم لقواعدها وممارساتها، أي إن الأمين العام يعتبر ضمير العالم وقلبه النابض، وتقع عليه مسؤوليات فريدة لأنه الممثل الأول للمجتمع الدولي، ويتحمل أمانة المصلحة العامة لهذا المجتمع بأكمله، ولديه الحنكة السياسية للتعامل مع دول لديها توجهات ومصالح مختلفة بغية إيلاء أهداف المنظمة الأولية، والشجاعة والجرأة لتصحيح المسار كلما جنحت الدول أو المنظمة ذاتها نحو سبيل غير مألوف أو غير منضبط.

من هذا المنطلق رأيت دائماً أن تكون القدرة على اتخاذ المبادرة الرشيدة من أهم صفات من يتولى هذه المناصب، مما جعلني أكتب أكثر من مرة في الماضي منتقداً الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش صراحة وبشدة، نظراً إلى تركيزه على القضايا الإنسانية والاجتماعية، وعدم انغماسه شخصياً في القضايا السياسية إلا في أضيق الحدود، وتجنب اتخاذ مواقف واضحة وحاسمة، مفضلاً المواءمات غير المكلفة التي لا تترجم إلى أفعال.

وأعتقد بأنني كنت محقاً في انتقاداتي القاسية حينذاك، وإنما أكتب اليوم بالموضوعية والصراحة نفسهما لأعطي لكل ذي حق حقه، وأكتب اليوم لأسجل احترامي وتقديري للمواقف الواضحة والتصريحات القوية والشجاعة التي اتخذها غوتيريش بالنسبة إلى الأوضاع في غزة.

فمنذ البداية، حتى عندما ندد باستخدام العنف، لم يغفل الإشارة إلى أن أحداث السابع من أكتوبر (تشرين الأول) 2023 كانت لحظة في سياق معاناة طويلة للشعب الفلسطيني تحت احتلال دام أكثر من سبعة عقود، ولم يتراجع عن موقفه أمام انتقادات باطلة وضغوط شديدة من إسرائيل وآخرين، واستمر على مواقفه وتصريحاته الواضحة والقوية، مطالباً بوقف إطلاق النار الفور، مبرزاً المعاناة الشديدة التي يتعرض لها الفلسطينيون في القطاع ومشدداً على أن المجاعات غير الإنسانية الوحشية تخالف تماماً قواعد القانون الدولي الإنساني، فضلاً عن أنه قدم كل الدعم لمؤسسات الأمم المتحدة العاملة في القطاع في ظروف غير آمنة ومستقرة.

وزاد من وضوح مواقفه تكرار مطالبته الصريحة والملحة بوقف إطلاق النار حتى عندما تعثر مجلس الأمن طوال أشهر عدة في إصدار قرار يدعو إلى ذلك، ولم يتردد على رغم اضطراب المجتمع الدولي وتوتر العلاقات بين كثير من الدول الدائمة العضوية في مجلس الأمن، كما زار معبر رفح مرتين لتسليط الأضواء على الأحداث والمشكلات، وللتحذير من مغبة شن اسرائيل مزيداً من العمليات العسكرية في رفح، ولحث المجتمع الدولي على توفير أكبر قدر من المساعدات الإنسانية، ملحاً ومكرراً أن تلك المساعدات لن تصل إلى المواطنين في مختلف أنحاء القطاع إلا بوقف إطلاق النار.

كرر كل هذه المواقف والزيارات والتصريحات على رغم عدم انتمائه إلى العالم العربي أو الشرق أوسطي، ملتزماً في ذلك المسؤوليات الرئيسة للأمم المتحدة ومقدراً بصورة سليمة مسؤوليات ودور من يتولى قيادة المنظمة الدولية، مما أهنئه وأشكره عليه، وأدعو الجميع إلى اعتباره صاحب موقف يحتذى به.

*هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن موقع الأمة برس-اندبندنت عربية-



مقالات أخرى للكاتب

  • سلام أو ثأر  
  • الضحايا تتضاعف والغرب يفقد صدقيته سريعاً!  
  • خلاصتان مهمتان من "طوفان الأقصى"  






  • كاريكاتير

    إستطلاعات الرأي