أوروبا تضج بالاحتجاجات ولكن ليس للأسباب المعهودة
2024-02-08
ماري ديجيفسكي
ماري ديجيفسكي

هناك شيء فريد وجذاب يتعلق بمسألة المواجهة بين المدينة والريف، ففي زمان حيث يعيش كل من أهالي الحواضر المدنية والريفية حياة منفصلة، فإن رؤية جرارات المزارعين وقطعان مواشيهم وهي تخترق شوارع المدن التي عادة ما تكون الحركة فيها منتظمة، فلا بد من أنه يكون مشهداً يثير تناقضاً صارخاً.

إن حال المواجهة الأخيرة قد وقعت رحاها في بروكسل، حيث قام ما يزيد على 1200 جرار زراعي بالنزول إلى الساحات المحيطة بمبنى البرلمان الأوروبي، واستهدفت حركة الاحتجاج تلك الزعماء الأوروبيين الذين كانوا يحضرون قمة أوروبية غير عادية كانت تنعقد في مكان غير بعيد من موقع الاحتجاجات، وسارت المواجهات التي تلت ذلك الطريق المألوف في مثل هذه الحالات، إذ قام المزارعون بإشعال مواقد نارية وهاجموا نصباً تذكارية وأفرغوا الروث الزراعي في الطرقات، إضافة إلى إطلاقهم الألعاب النارية على أنواعها باتجاه الشرطة.

من ناحيتها قامت قوات الشرطة التي ارتدى أفرادها معدات مكافحة الشغب بالهجوم على المحتجين وانهالوا عليهم ضرباً بهراواتهم قبل اللجوء إلى استخدام الخراطيم ومدافع المياه لتفريقهم.

لقد كانت تلك التظاهرة من الأكبر والأكثر غضباً التي تشهدها أوروبا خلال الأشهر الأخيرة، في محاولة من المزارعين الأوروبيين لإثبات قوتهم.

لكنها لم تكن حركة احتجاج معزولة أبداً حتى وإن كانت غالبية المتظاهرين في ساحة لوكسمبورغ وسط العاصمة بروكسل من المزارعين البلجيكيين، فإن نظراءهم الفرنسيين كانوا بصدد ضرب حصار على العاصمة باريس أيضاً مهددين "بتجويع" العاصمة الفرنسية لدفعها إلى الخضوع.

ومنذ الصيف الماضي كانت كل من إسبانيا والبرتغال وألمانيا وهولندا وبولندا قد شهدت تظاهرات احتجاجية قام بها المزارعون هناك، وهذا التعبير عن غضب المناطق الريفية ترافق مع ظهور نتائج لاستطلاعات الرأي تشير إلى أن هناك زيادة في التأييد لما يمكن اعتباره بصورة فضفاضة الأحزاب الشعبوية وسياسييهم، خصوصاً وأن عمليتين انتخابيتين برلمانيتين جرتا أواخر العام الماضي، قد أفضتا في كل من سلوفاكيا وهولندا إلى احتلال سياسيين شعبويين المراتب الأولى، مما يعكس زيادة عدم الرضا السياسي في مختلف أنحاء أوروبا، ثم تفاجأ كثير من الألمان، وفقط خلال الأسبوعين الماضيين، بعدما اكتشفوا أن جزءاً من أتباع حزب اليمين المتطرف "البديل من أجل ألمانيا" كانوا اجتمعوا لمناقشة إمكان إبعاد أشخاص وصفوهم بأنهم مهاجرين غير مندمجين.

حالياً ليس هناك ما يؤشر إلى إمكان الارتقاء بالفكرة إلى طور السياسة حتى من قبل حزب "البديل من أجل ألمانيا"، وعلى رغم أن الاقتراح واجه التنديد الكامل من قبل السياسيين الألمان من التوجهات السياسية كافة، إضافة إلى تسببهم في خروج تظاهرات احتجاجية واسعة إلى الشارع، فإن هذه التحركات من أعداد المزارعين وتجمعاتهم الاحتجاجية العلنية والواسعة، إضافة إلى التجمع السري لاتباع حزب "البديل من أجل ألمانيا"، كلها تدعم نظرية أن أوروبا في طور الدخول في حقبة من الثورات، وربما تحركات تذكر بعام 1848، و/أو كون الاتجاه نحو تعاون أوروبي وثيق مثل الذي سمح بقيام الاتحاد الأوروبي ربما اقترب من نهايته.

وبكل الأحوال فليست النظرية أعلاه الطريقة التي شخصياً أربط بها الأمور ببعضها بعضاً، ولست على اقتناع حتى بأن هناك كثيراً من النقاط لربطها ببعضها.

لكن لا بد من الإشارة إلى أن هناك جواً عاماً سائداً من شأنه أن يكون ذا صلة في الأقل، ربما بين كل تلك التطورات وربما أكثر من ذلك حتى، فخلال هذا العام ستشهد كل من البرتغال وبلجيكا والنمسا انتخابات عامة من شأنها أن تنتج تحولات، إضافة إلى انتخابات البرلمان الأوروبي التي ستجري عبر أرجاء الاتحاد الأوروبي خلال يونيو (حزيران) المقبل.

إن الحكومات في كل من فرنسا وألمانيا تظهر إشارات تنم عن ضعفها ومعاناتها، فالرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون قام للتو بعملية تغيير شملت المراكز الرفيعة في حكومته، ويبدو أن استقرار الائتلاف الألماني الحاكم أيضاً تحت الخطر.

وسواء على الصعيد المحلي أو الوطني أو على المستوى الأوروبي، تقدم الانتخابات أو التغييرات الحكومية كل أنواع الفرص لجماعات الضغط والتجمعات، وحتى كل أنواع الانتهازية وسياسة حافة الهاوية، وهذا كله قد يكون بالتأكيد جزءاً مما نحن بصدد رؤيته من مواقد نارية تشتعل أمام مبنى البرلمان الأوروبي.

وأكثر من ذلك فالمزارعون قد يكونون إحدى أقوى جماعات الضغط في الاتحاد الأوروبي، ولديهم همان مشتركان حالياً، الأول، وتتركز حوله احتجاجات كل من بروكسل وباريس، هو ما يرونه عبارة عن إجراءات بيروقراطية متزايدة من قبل أجندة الاتحاد الأوروبي البيئية، وهكذا فإن احتجاجاتهم تتناغم مع هم شعبي أوسع في كثير من الدول، وتتعلق بكلفة الوقود وكلفة السياسة "الخضراء" المفروضة على المستهلكين من دون تأييد شعبي كاف كما يرى بعضهم.

أما الهم الآخر والذي يمكن أن نلخصه بكلمة واحدة فهو أوكرانيا، فإن واحداً من أشكال دعم الاتحاد الأوروبي إلى أوكرانيا اتخذ شكل توريد الحبوب والمنتجات الزراعية الأخرى التي لم يعد في الإمكان تصديرها إلى روسيا أو أي دولة أخرى من طريق البحر، لكن كثيراً من المزارعين في الاتحاد الأوروبي يرون بأن تلك السياسة غير مرحب بها وعبارة عن منافسة غير عادلة، وتحوّل الموضوع إلى مادة انتخابية في كل من دولة سلوفاكيا وبولندا العام الماضي، ليبقى مسألة جدلية تضاف إليها الكلفة المتواصلة لتوفير المساعدة لأوكرانيا.

وفي شكل من الأشكال فما يحدث هو بمثابة تحذير للصعوبات التي من المحتمل أن تشكلها مسألة العضوية المقترحة لأوكرانيا في الاتحاد الأوروبي حين تحين تلك اللحظة لو حانت فعلاً.

إن أوكرانيا بلد كبير وفقير ودولة زراعية كبيرة، ومع مرور الوقت يمكن أن تتحول هذه القضية إلى مسألة خلافية جدية داخل دول الاتحاد الأوروبي، ولا يبدو بالنسبة إليّ أن شكاوى المزارعين كما يُعبر عنها حالياً مضرة بالاتحاد الأوروبي أكثر من مثيلاتها في الماضي أو أنها مشكلات لا حل لها، والإبطاء في تنفيذ الأجندة الخضراء أمر ليس بعيد المنال، كما هي التعويضات على الاستيراد من أوكرانيا، أما مسألة انضمام أوكرانيا إلى الاتحاد الأوروبي فتلك مسألة أخرى، لكن إذا نجح الاتحاد الأوروبي في إقناع هنغاريا بتوفير مزيد من الدعم المادي لأوكرانيا، كما جرى خلال القمة التي انعقدت في بروكسل هذا الأسبوع، فإن مسألة الحبوب الأوكرانية وتأثيرها في الأجندة البيئية للاتحاد الأوروبي على المزارعين يمكنه التوصل إلى حل فيها أيضاً.

قضايا أخرى لها طبيعة محلية أكبر من كونها مسائل على نطاق الاتحاد الأوروبي، إذ إن احتجاجات المزارعين الألمان النادرة خلال الأسابيع الأخيرة أشعلها قرار حكومي برفع أسعار مادة الديزل، وفيما يشارك المزارعون الألمان زملاءهم الأوروبيين القلق من مسائل كثيرة، إلا أن جذور هذا النزاع الأخير محلية، وفي ذلك الجانب يكمن موطن الحل. 

أما عن السخط في مختلف أنحاء الاتحاد الأوروبي والذي يمكن أن يتحول إلى انتفاضات شعبية ولو في شكل انتخاب اليمين المتطرف أو الأحزاب الشعبوية، فمن جديد تبدو هذه الأخطار مبالغ فيها، وفي حين أن هذا بالضبط ما حدث في هولندا وسلوفاكيا، فإن العكس حصل في بولندا حيث تصدر دونالد توسك وحزبه "المنصة الوطنية" نتائج الانتخابات، ولا بد من الاعتراف أيضاً بأن دولة سلوفاكيا يقودها اليوم ائتلاف حكومي مكون من اليمين واليسار، وليس لدى هولندا أية حكومة جديدة حتى الآن.

أما في ألمانيا فإن تصويت حزب "البديل من أجل ألمانيا" لا يعكس دائماً المخاوف التي يثيرها وجوده، فهذا الحزب خسر الانتخابات البلدية الأسبوع الماضي، والأمر نفسه ينطبق على فرنسا وحزب "التجمع الوطني" بزعامة مارين لو بين (كان يطلق عليه اسم ’الجبهة الوطنية‘ سابقاً)، ولا بد لنا من التمييز هنا بين الانتخابات المحلية والانتخابات العامة على مستوى الاتحاد الأوروبي، والتي يمكنها أن تقدم ما يمكن أن يبدو لبعض الناخبين بأنه وسيلة للإعراب عن الاستياء من دون عواقب كبيرة.

وعلى رغم ذلك كله فقد أظهر الاتحاد الأوروبي موقفاً يثير الإعجاب من خلال وحدته تجاه أوكرانيا خلال العامين الماضيين منذ الاجتياح الروسي، ولقد كان هناك تباين بخصوص مستوى الدعم العسكري، وأيضاً في المواقف بخصوص تصدير الحبوب، ولكن على رغم مواقف هنغاريا المعتادة الشاذة فلم تظهر حتى الآن أية انقسامات حادة يمكن استغلالها من قبل روسيا أو أي حد آخر، ويمكن القول إن ألمانيا قامت بالتضحية بكثير من تفوقها الاقتصادي في دعم أوكرانيا، فأعادت توجيه اقتصادها بالكامل بعيداً من الاعتماد الكامل على مصادر الطاقة الروسية، وعانت معظم دول الاتحاد الأوروبي مرارة ارتفاع الأسعار، لكن الاتحاد الأوروبي وربما جزئياً بسبب خروج المملكة المتحدة من الاتحاد، نجح في التعامل مع ضغوط تلك العاصفة.

إن الانتخابات الوطنية وتلك المتوقعة على مستوى الاتحاد الأوروبي خلال الأشهر المقبلة من شأنها أن تظهر إلى أي مدى يمكن للوئام أن يصمد، ولكنني أجد صعوبة في أن أرى في احتجاجات المزارعين الجارية حالياً أنها مختلفة نوعياً عن مثيلاتها في الماضي، أو أنها تشكل زيادة في مستويات الدعم للحركات القومية أو الشعبوية، أو أن من شأنها أن تتخذ ربما بعداً أوروبياً شاملاً، أقله حتى الآن.

والحق أن هناك كثيراً من الأسباب المشتركة وراء استياء الأوروبيين، ولكن هناك أيضاً خصوصيات وطنية وغيرها، ولهذا السبب يبدو من غير المرجح أن تتكتل هذه التباينات.

*هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن موقع الأمة برس-اندبندنت عربية-



مقالات أخرى للكاتب

  • القتال بين إيران وإسرائيل لن يتوقف لكن حربا موسعة جرى تفاديها
  • 3 أسئلة ملحة قاد إليها الهجوم الإيراني على إسرائيل
  • إيران تعلم أن العالم في ترقب فما خطوتها التالية؟






  • كاريكاتير

    إستطلاعات الرأي