ترمب في مرمى النيران لكنه لم يخرج من السباق
2023-08-26
ماري ديجيفسكي
ماري ديجيفسكي

ملف الاتهامات الذي وجه إلى دونالد ترمب في ولاية جورجيا الأميركية هذا الأسبوع يمثل إلى حد كبير أخطر التهديدات لطموحات الرئيس السابق مقارنة بكل التهديدات القضائية المتكدسة ضده، ويعود ذلك في الوقت نفسه لكونها الاتهامات الأكثر سياسية لأنها من ناحية تتعلق بمؤامرة للعمل على قلب النتائج في انتخابات ديمقراطية وهي أيضاً في الوقت نفسه، الاتهامات الأقل سياسية، لناحية أنها تهم يصعب التأثير فيها على أساس التعاطف السياسي لهيئة المحلفين أو الرأي العام.

النقطة الأساسية فيها هي أنه يتوجب على الادعاء ومن أجل النجاح في إدانة ترمب، أن يوائم ما بين الأدلة المتاحة والنصوص الحرفية للقوانين. والأدلة المتداولة في الحيز العام حتى الآن والمتعلقة بهذه القضية - تسجيل صوتي يطالب من خلاله ترمب بإعادة توزيع الأصوات - يبدو إلى حد كبير بأنها تدينه بقوة.

وإذا لم ينجح فريق ترمب بإيجاد محام قادر على بث الشكوك حول أصالة ذلك التسجيل - ولا يبدو حتى الآن أن موثوقية ذلك التسجيل تعرضت للمساءلة - فإنه سيكون من الصعب إيجاد مساحة من أي كان للمجادلة بأن الهدف من الاتصال كان أي شيء غير الهدف الذي يبدو أنه تم لأجله: وهو أن الرجل الذي كان لا يزال رئيساً للولايات المتحدة كان يسعى إلى تغيير النتائج الحقيقية لانتخابات ديمقراطية.

ملفات الاتهام الأخرى التي يواجهها ترمب تبدو أقل ضرراً أو غير واضحة النتيجة [من وجهة النظر القانونية]. إن قضية دفع الأموال  لقاء شراء صمت [الممثلة الإباحية] المقدمة في مانهاتن، تتضمن معطيات تستند إلى "هو قال وهي قالت"، والرهان قائم حالياً على أنه في الإمكان تسوية هذه القضية عن طريق دفع تعويضات إضافية، أو التوصل إلى صفقة للاعتراف بالذنب لقاء تخفيف العقوبة أو إلغائها.

أما ملف الاتهامات المتعلقة باحتفاظ الرئيس السابق بملفات سرية عالية الحساسية في مقر إقامة ترمب في فلوريدا، فإن تلك القضية تقدم عدداً من المخارج المحتملة، ومن ضمنها الواقع أن رؤساء آخرين - ومن ضمنهم الرئيس جو بايدن - فعلوا الأمر نفسه، وأنه يمكن نقل بعض المسؤولية في الأقل إلى آخرين بمن فيهم الموظفون التابعون له. وهذه ليست طريقة نبيلة، لكن ترمب لم يدع النبل يوماً فهو يبحث عن وسيلة للبقاء.

في ظاهر الأمر، فإن ملف الاتهامات المتعلق باقتحام "الكابيتول" في السادس من يناير (كانون الثاني) 2021، هو الأقرب إلى الاتهامات المساقة ضد ترمب في جورجيا، في الادعاء بوقوع محاولة لقلب نتائج الانتخابات. لكن هناك اختلافات بين المسألتين، وربما سيكون من الأسهل على ترمب أن يتحدى تلك التهم [في قضية الكابيتول]. وفي ما يبدو بعض من الاتهامات في قضية جورجيا بأنها مفصلة على مقاس ترمب، وجاهزة لإدانته، فإن تلك المتعلقة بأحداث الكابيتول تعتمد لحد ما على كيفية الاجتهاد في تفسيرها.

أنا لم أجد أي شيء مثلاً، في أي من المواد التي برزت حتى الآن في الحيز العام، التي من شأنها إقناعي كعضو مفترض في هيئة المحلفين بأن ترمب عقد العزم على ارتكاب عملية الاقتحام أو توجيه الأوامر "لجنوده" للهجوم على مبنى الكابيتول. إن مدى مسؤوليته حيال ما وقع سيعتمد - وفي غياب أي تفاصيل جديدة - على نسبة وكيفية تقييم ما جرى من وجهة نظر الأشخاص المعنيين.

من الواضح أن رفض ترمب الاعتراف بهزيمته في تلك الانتخابات، شكل الدافع الذي حرك أنصاره للتجمع في العاصمة واشنطن. لكن يحق أيضاً لترمب أن يتحدى النتائج، وأن يرفض الاعتراف بهزيمته. وإذا أخذنا ما جرى في ولاية فلوريدا في انتخابات 2000، إذ جرى التشكيك بنزاهة عملية التصويت، وتبين أنه لا توجد آلية موثوقة لإعادة فرز الأصوات، فإن المرشح الذي هزم في سباق رئاسي متقارب قد تتوافر له ربما بعض الطرق لتحدي النتائج، حتى البت بأصوات المجمع الانتخابي [الذي يصادق على نتائج تصويت الولايات].

إن استمرار الانقسام في الولايات المتحدة الأميركية بين المؤيدين لترمب والمعارضين له، يمكن أن يكون له أثر في أي قرار إدانة يصدر بخصوص أحداث السادس من يناير، بشكل لا يبدو أنه قد يتكرر في ولاية جورجيا. إن قرار الإدانة، لو صدر وليس في حق ترمب وحده بل في حق الأشخاص الـ18 المتآمرين معه، يبدو أسهل للتحقيق بدرجة كبيرة، وإن كان ذلك سيكون متبوعاً بعملية استئناف من دون شك.

لكن هنا تقع العقدة. حدد موعد انعقاد المحكمة في جورجيا مبدئياً في الرابع من مارس (آذار) 2024، الذي يصادف عشية ما يعرف بـ"الثلاثاء العظيم"، عندما تقوم عدد من الولايات الأميركية بعقد انتخاباتها التمهيدية لاختيار المرشح الأوفر حظاً لخوض انتخابات الرئاسة.

وفي ذلك التاريخ قد لا تكون انعقدت أية جلسة استماع في المحكمة لعرض الأدلة حين يجري التصويت [على المرشحين] وهو ما قد يسمح بحصول ترمب على الترشيح من حزبه. أما إذا نقلت وقائع المحاكمة على الهواء، وهو أمر محتمل، فإن انتخابات الرئاسة لعام 2024 يمكنها أن تأخذ بعداً جديداً تماماً.

والحق إن أقل ما نشهده هو أن الساحة جرى إعدادها لتشهد سباقاً بين مجموعة محيرة للغاية من المواعيد المختلفة: الجدول الزمني الخاص بالانتخابات الذي يبدأ في الخامس من نوفمبر (تشرين الثاني) من العام المقبل، والجدول الزمني الخاص بالمسار القضائي، الذي يبدو بأنه مؤهل لأن يكون مطعماً بجلسات محاكمة واستماع طوال الوقت.

أهم المتهمين في هذه الأثناء، يبقى الأكثر حظاً للفوز بترشيح الحزب الجمهوري مع إمكان أن تتحسن حظوظه كلما تزايدت مشكلاته مع سلطات إنفاذ القانون. وسيستحق ذلك المشهد المسرحي المتابعة في حد ذاته، فيما يقوم ترمب وطائرته الخاصة وموكبه الذي تتقدمه الدراجات في التنقل بين مبنى للمحكمة وآخر معرجاً في طريقه على تجمعات حملاته الانتخابية التمجيدية.

وعليه، هل هناك من شيء قادر على منع إدراج اسمه على أوراق الاقتراع في الخامس من نوفمبر؟

أولاً، ما لن يكون كافياً لمنعه، هو صدور إدانة جنائية في حقه. وحدها تهمة "إشعال انتفاضة"، أو "التمرد" تمثل مانعاً دستورياً أمام شخص ليصبح رئيساً، وأي من الاتهامات التي يواجهها ترمب لا ترقى إلى ذلك المستوى (تقريباً).

نظرياً، يبدو أنه سيمكنه خوض انتخابات الرئاسة حتى من داخل زنزانة السجن وبعدها سيعفو عن نفسه بعد تسلمه مقاليد السلطة. وهذا الإمكان متاح ربما وفقط، لأن الآباء المؤسسين ومن جاء من بعدهم، فشلوا في توقع بروز مرشح مثل ترمب الذي تتزايد شعبيته بنسبة مماثلة لتزايد عدد مشكلاته مع سلطات القانون. ولكن بحسب ما الأمور عليه حالياً، فإنه قد يدخل السباق سواء أكان أسيراً أم حراً.  

أمر آخر قد لا يوقفه عن عدم احترامه لمعايير اللباقة السياسية. إن المواقف والأقوال التي من شأنها أن تفسد حظوظ أي مرشح آخر، ينجو منها ترمب من دون أي خدش، تماماً مثلما أظهرت ملاحظاته المعادية للنساء في عز حملة حركة "أنا أيضاً" Me Too [المناصرة لحقوق النساء اللاتي تعرضن للاعتداءات الجنسية] النسوية في 2016. بالنسبة إلى بعض الناخبين، إن جاذبيته تلك تنبع تحديداً من عملية استهزائه بالأعراف والتقاليد القائمة.

ولن يمنعه في الغالب أيضاً نزوعه بشكل طبيعي لإنقاذ نفسه بأي ثمن وحتى وإن ضحى بأقرب المقربين منه في الطريق. لقد قام سابقاً في رمي محاميه السابق مايكل كوهين للذئاب ورفع قضية ضده لخرقه عرف السرية المتعلق بالموكلين بسبب بعض المشكلات القانونية التي كان يواجهها. ويتوقع أن يشهد كوهين ضد ترمب في قضية دفعه أموالاً لشراء صمت [الممثلة الإباحية] ولكن تلك القضية قد لا يبت بها إلى ما بعد انتخابات 2024 الرئاسية.

ربما تكون في هذا السياق الشخصية الأكثر تراجيدية هي شخصية رودي جولياني، عمدة مدينة نيويورك الفعال والمحبوب في تسعينيات القرن الماضي. فبعدما كان جولياني قام برمي ثقله من أجل مساعدة ترمب، فإنه يواجه حالياً كثيراً من الاتهامات نفسها، تماماً مثل تلك الموجهة إلى سيده، ومن ضمنها تهمة التآمر في جورجيا، ومن دون أن يكون له الحق على ما يبدو بتحدي الاتهامات الموجهة إليه. وهناك تقارير تفيد بأنه قام أخيراً بعرض منزله في مانهاتن للبيع، وأنه قام بزيارة منتجع ترمب في "مارالاغو" شخصياً لطلب المساعدة من ترمب ولكن من دون جدوى.

إن فريق الدفاع التابع لترمب ربما يكون على علم بمكان دفن أسراره المختلفة، ولكن حتى الآن وبالاستثناء المحدود الذي مثله كوهين، رفض جميعهم "إفشاء الأمور" [الشهادة ضد ترمب]. وربما أيضاً لأن الأدلة التي بحوزتهم لم تعتبر مؤهلة لإتمام صفقة قانونية. أو أنهم ربما يقومون بالمراهنة، على أمل أو لإيمانهم، بأن ترمب سيصبح رئيساً مرة أخرى.

وهو ما يترك "الأموال" على الأرجح، كمصدر أعظم نقاط ضعف ترمب وإمكان أن يكون هناك مشهد أخير من وحي آل كابون، حين تكون المخالفات الضريبية وليس "الابتزاز" - وهي أيضاً من بين التهم التي يواجهها ترمب في جورجيا - هو التي تؤدي إلى سقوطه في الآخر.

إن عملية محاربة دفق القضايا القانونية المستمر التي ترفع ضده لا بد أن يكون لها كلفة مادية، تماماً كما عرف جولياني للتو. ترمب ليس شخصاً غريباً على التحقيقات المالية وعملاء مصلحة الضرائب الفيدرالية هم من بين كثيرين ينتظرون للنيل منه. إن أي مرشح رئاسي يحتاج إلى المال لخوض معركة الرئاسة، وفيما نجح ترمب حتى الآن في جمع كثير من الأموال، فإن مصاريفه الخارجية [المتعلقة بالقضايا القانونية] تتعاظم باستمرار. هل ينفد المال لديه قبل أن تحين الساعة؟ أو أن الأمر سيكون متروكاً للناخبين الأميركيين مرة جديدة لاتخاذ القرار في شأن مصيره؟

*هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن موقع الأمة برس-اندبندنت عربية-



مقالات أخرى للكاتب

  • القتال بين إيران وإسرائيل لن يتوقف لكن حربا موسعة جرى تفاديها
  • 3 أسئلة ملحة قاد إليها الهجوم الإيراني على إسرائيل
  • إيران تعلم أن العالم في ترقب فما خطوتها التالية؟






  • كاريكاتير

    إستطلاعات الرأي