بوتين نجح في التمسك بالسلطة لكن معركته بدأت للتو
2023-07-01
ماري ديجيفسكي
ماري ديجيفسكي

انتهى كل شيء أو لم ينته فعلياً، فبعد 24 ساعة من الدراما المثيرة التي شاركت فيها قوات من المرتزقة القوية قوامها 25 ألف رجل لشن ما بدا بشكل واضح جداً على أنه تحد مباشر للرئيس الروسي فلاديمير بوتين، وقافلة عسكرية وصلت إلى مسافة 200 كيلومتر من العاصمة موسكو، يبدو وكأن الهدوء يسود الجبهة الروسية حالياً. لكن ومن نواح كثيرة فإن مراكز القوة في داخل روسيا تغيرت، وهناك احتمال أيضاً بأن التغيير سيطاول الحرب الروسية - الأوكرانية.

الأسئلة الآن هي عن مدى جذرية التغيير هذا، وهل بات دائماً؟ وما هي الكلفة التي تترتب على بوتين نتيجة اتفاق الساعة الأخيرة الذي توسط فيه رئيس دولة بيلاروس ألكسندر لوكاشينكو وسمح باستدارة القافلة المتجهة نحو موسكو، وموافقة قائد المتمردين على البقاء في المنفى والحصانة من الملاحقة القضائية؟

إن جذور ما تحول لفترة قصيرة تمرداً مسلحاً ضد كبار المسؤولين في القيادة العسكرية الروسية تبدو متعلقة بمطالبة بوتين الأخيرة بضرورة تعاقد قوات "فاغنر" المرتزقة رسمياً مع القوات المسلحة الروسية، وبالتالي إخضاعها لإمرة القيادة الروسية.

قوات المرتزقة التي أسسها ويقودها يفغيني بريغوجين، وهو كان واحداً من المتعاونين السابقين مع بوتين في سان بطرسبرغ، ويقول بعضهم إنه أنقذ بوتين من مأزق خطر من خلال تحقيقه النصر في المعركة الطويلة للسيطرة على باخموت شرق أوكرانيا ولو بكلفة مرتفعة للغاية، قبل تسليمه المناطق لجنود تابعين للقوات المسلحة الروسية النظامية.

لكن ومن خلال عملية باخموت أصبح بريغوجين أكثر انتقاداً لكيفية إدارة روسيا للحرب الأوكرانية، وقام بنشر تسجيلات فيديو تندد بكل شيء، بدءاً مما اعتبره بمثابة رفض موسكو تزويد قواته بالسلاح والذخيرة الكافية إلى عدم كفاءة الجهود العسكرية الروسية في أوكرانيا، وتردد طبقة النخبة الروسية في القتال في سبيل وطنها، وكانت لهجته اللاذعة ازدادت حدة لدرجة بات يصعب نشر مضمونها في الإعلام، مما ترك الشعب الروسي والمراقبين الأجانب محتارين في كيفية السماح له بذلك من دون أي محاسبة.

لكن الأشهر التي مرت من دون تعرضه للمساءلة انتهت السبت الماضي في الصباح عندما قام الرئيس بوتين بتوجيه كلمة متلفزة غير مجدولة ينتقد فيها بريغوجين ومجموعة "فاغنر" بحدة من دون ذكرهم بالاسم، ويصفهم بخونة ومتمردين يقومون "بطعن روسيا في الظهر"، وقام بمناشدة الروس "كرئيس للجمهورية وقائداً أعلى للقوات المسلحة ومواطن من الشعب الروسي"، داعياً إياهم إلى الوحدة من أجل سيادة وأمن الدولة الروسية.

أما القشة التي قصمت ظهر البعير فيبدو أنها كانت قيام جماعة "فاغنر" بالاستيلاء على مراكز قيادة عسكرية ومن ضمنها مقر قيادة الحرب الأوكرانية ومطارها العسكري في مدينة روستوف على الدون الجنوبية، وهي المدينة التي انطلقت منها قافلة عسكرية في "مسيرة العدالة" متجهة نحو موسكو، ولم تكن هناك مقاومة من القيادة العسكرية في روستوف، أو بحسب ما بدت عليه الأمور، من مدن أخرى مثل مدينة فورونيج وإيليتس وليبيتسك، مع تقدم القافلة العسكرية الحثيث شمالاً.

ومع ازدياد التوقعات بأن تتمكن قوات المتمردين من الوصول إلى موسكو بحلول ليل ذلك اليوم، وضعت العاصمة في حال طوارئ قصوى واتخذت التدابير الدفاعية في مواقع عدة على مشارف المدينة، وانتشرت توقعات بأنه بشكل أو آخر فإن بوتين كان يمكن أن يخسر السلطة خلال ساعات، وأن روسيا كانت تواجه خطر اندلاع حرب أهلية فيها، وهو احتمال أشار إليه الرئيس بوتين خلال مناشدته.

في ضوء الأوامر التي أعطيت للقافلة من بريغوجين بأن تعكس مسارها وقبوله الظاهر بموافقته على الذهاب إلى المنفى "لتفادي إرقاء الدماء"، كان هناك رأي بأن بوتين قد انتصر، وربما في يوم م انتظر بوتين لأسابيع قبل أن يعترف بوجود أي تهديد على الإطلاق من بريغوجين، على رغم تعليقات زعيم "فاغنر" الحادة واللاذعة التي انتهت بالتشكيك في الموقف الروسي الرسمي وقرار اجتياح أوكرانيا، وعندما قرر بوتين في النهاية إلقاء كلمته المتلفزة كان عليه الاعتراف بأن جزءاً من البلاد، وليس هامشياً، بل مدينة مهمة ومركز عسكري مهم خرج عن سيطرة موسكو، وهذا أمر ليس من السهل على أي زعيم وطني أن يختار القيام به، وإذا كان في إمكان الرئيس بوتين تفادي أو حتى إنهاء ما بدا أنه كان تمرداً من دون خروج الأمر إلى العلن، لكان ذلك أقل ضرراً بسلطته.

ويبدو الأمر أيضاً أن بوتين قد اضطر إلى الاستعانة بوساطة طرف ثالث أو كان عليه القبول بها من أجل إنهاء تهديد "فاغنر"، والذي يقترح أنه كان أبعد ما يكون عن قدرته على تحريك أصبعه مشيراً على بريغوجين بالانصياع إلى أوامره، ومن الصعب تحديد المستفيد من الاتفاق لأنه لم يظهر للعلن سوى تفاصيل قليلة جداً من التسوية، وهي توقف تقدم القافلة العسكرية ورحيل بريغوجين إلى المنفى، إضافة إلى التعاقد مع عناصر "فاغنر" وضمهم إلى القوات الروسية.

ما هي الفوائد التي جناها لوكاشينكو الذي كان دعمه لحرب بوتين في أوكرانيا قد بدا في أوقات مختلفة متردداً؟ وهل نجح في الحصول على تمويل من روسيا؟ وهل حصل على صفقة توريد للطاقة بتخفيضات مفيدة له؟ أو أنه حصل على وعد بمشاركته جزءاً من غنائم الحرب لو كتب النصر لروسيا على أوكرانيا؟ أم هل أصبح لدى لوكاشينكو بعض النفوذ على بوتين؟

ويمكن طرح السؤال حول ماذا تطلب الأمر لإقناع بريغوجين بالذهاب إلى المنفى؟ هل تطلب ذلك مناقشة حصوله على رشوة؟ وهل هذا هو كل ما تطلّبه الأمر؟ إن مطالب بريغوجين بدت أنها تتضمن إقالة وزير الدفاع والقادة العسكريين الكبار المسؤولين بحسب بريغوجين، عن سوء إدارة الحملة الأوكرانية، فهل نعرف إن كان هؤلاء الضباط ما زالوا في مناصبهم؟ وهل سنشهد تغييرات على مستوى القيادة خلال الأسابيع المقبلة؟ ولو حصل ذلك فماذا سيكون أثرها في جهود روسيا الحربية؟ وماذا سيكون انعكاس ذلك في سلطة بوتين إذا بدا وأن قراراته لتغيير موظفيه قد فرضت عليه من قبل شخص كان وصفه بالخائن؟

بعضهم يقترح بأن بريغوجين الآن شخص مستهدف وأن أيامه قد أضحت معدودة، وأنه ربما قد يختار مغادرة الساحة بشكل كامل للتركيز على نشاطات "فاغنر" في أجزاء من أفريقيا، ولكن، ومن جديد، ما هي الضمانات المتاحة هناك بأن بريغوجين سيبقى في المنفى أو بعيداً من المشهد الروسي، وهذا المشهد لا يقتصر على العمليات في أوكرانيا ولكن ينطبق أيضاً على أي مناورات سياسية قد تندلع في موسكو؟ أم أن بوتين ربما قام بلعب دور القائد القوي للغاية الذي هدد بقصف موكب قوات بريغوجين وتدميره بأكمله؟

إن أخطار هكذا خطوة على بوتين، عدا خطر التهديد بانقسام القوات المسلحة الروسية في حال قيام بعض الضباط برفض مثل تلك الأوامر، ربما من شأنه أن يعني تدمير بعض أكثر الوحدات العسكرية الروسية فعالية والتي تقاتل في أوكرانيا إلى جانب روسيا، لكن إلى أي مدى يمكن الركون إلى ولاء مقاتلي "فاغنر" بعدما جرى إذا فرض عليهم التوقيع على عقود للخدمة في صفوف الجيش النظامي الروسي؟

بتفادي أي خطر كان يمكن أن يشكله بريغوجين ولو لفترة موقتة، خرج بوتين [من المأزق] محتفظاً بسلطته كما هي ولكن ليس نفوذه، ولا ندري ما إذا كانت هذه الحادثة من شأنها، كما يقول بعضهم أو يتمنون، أن تضع حداً قريباً للـ 20 عاماً أو أكثر التي أمضاها بوتين على رأس السلطة في روسيا أم لا، لكنه يبقى أمراً صعب التيقن منه.

لم يقم بريغوجين يوماً بتهديد سلطة بوتين مباشرة، فهو كثيراً ما استهدف المؤسسة الدفاعية الروسية، وأي تحد منطقي لبوتين سيعتمد على وجود شخص قادر ومستعد لقيادة تلك العملية، وذلك غير متوفر بشكل واضح حالياً، وهناك حرب مستمرة في هذه الأثناء ولم تؤد بعد إلى إثارة حركة معارضة شعبية علنية لها حتى الآن.

إلى أي مدى ستؤثر الدراما التي شهدناها خلال الأيام الأخيرة في جهود الحرب الروسية؟

هذا أمر قد يظهر مع مرور الوقت، فمن جهة لن يقتصر الأمر على أفراد المرتزقة السابقة التابعين لبريغوجين والحاصلين على عقود جديدة والذين قد يغيرون رأيهم حيال استمرار القتال، لكن ذلك قد يصل إلى القوات النظامية الروسية أيضاً إذا شعرت بوجود انقسامات بين من يقومون بإدارة الحرب في موسكو، ومن جهة ثانية فلا بد من طرح السؤال عن الدرجة التي يمكن لأوكرانيا أن تستفيد بها من الضعف المستجد، ومن كون وجود زعيم في موسكو أصابه [سلطته] الضرر وربما الوهن، وقد يكون أقل انفتاحاً حتى على تقديم التنازلات مقارنة بالسابق.

*هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن موقع الأمة برس-اندبندنت عربية-



مقالات أخرى للكاتب

  • القتال بين إيران وإسرائيل لن يتوقف لكن حربا موسعة جرى تفاديها
  • 3 أسئلة ملحة قاد إليها الهجوم الإيراني على إسرائيل
  • إيران تعلم أن العالم في ترقب فما خطوتها التالية؟






  • كاريكاتير

    إستطلاعات الرأي