ما زال الناس يتذكرون تتويج الملكة إليزابيث الثانية يوم 2 يونيو عام 1953 لعدد من الأسباب اللافتة. فالمراسم التاريخية التي أُجريت في «كنيسة وستمنستر آبي» بُثت على التلفزيون حتى يراها العالَم بأسره، بفضل زوج الملكة الأمير فيليب. وخلال الأسابيع التي سبقت المراسم، كان آلاف المواطنين قد اقتنوا أجهزةَ تلفاز صغيرة بالأبيض والأسود ودعوا جيرانهم من أجل التحلق حول الشاشات الصغيرة لمشاهدة الحدث التاريخي. وتم تحضير أشرطة أفلام ملونة أكثر دراماتيكيةً من أجل عرضها لاحقاً في قاعات السينما. واستُخدمت طائراتٌ لنقل الأفلام جواً إلى الولايات المتحدة حتى يشاهدها الأميركيون. وكان كلٌ مِن الحفل واستعراض الشخصيات الكبيرة وأعضاء القوات البريطانية وقوات الكومنويلث حدثين طويلين زمنياً. وكانت إحدى بطلات ذاك اليوم ملكة تونغا، وهي امرأة طويلة القامة وذات حضور مهيب، وكانت المفضلة لدى الحشود الغفيرة من بين بقية الضيوف وهي تحيي الجمهورَ بيدها مبتسمةً بينما كانت عربتها التي يجرها حصانان تخترق شوارع لندن ببطء تحت الأمطار.
بعد سبعين عاماً على ذلك الحدث، كان الملك تشارلز الثالث يُتوج في كنيسة آبي. ومرةً أخرى، كانت السماء تمطر. لكن المراسم كانت مختلفة جداً عن مراسم تتويج والدته. فقد كانت الاستعراضات عبر الشوارع أقصر بكثير، لكن حضور أكثر من 7 آلاف من قوات الأمن أضفى على المشهد مظهراً مثيراً للإبهار. غير أن التغيير الحقيقي كان التتويج نفسه. إذ على الرغم من أن الأمر يتعلق بمراسم دينية أشرفت عليها كنيسةُ إنجلترا، فإن الحضورَ كان يضم كل فروع المسيحية، إضافةً إلى ممثلين للمسلمين واليهود والسيخ والبوذيين. وشمل تنوعُ الضيوف نساءً أساقفةً والعديدَ من المواطنين من كل الديانات مع حضورٍ أقلَّ بكثير لنبلاء بالوراثة. وأُنشدت ترانيم وصلوات وقُرئت باللغات الويلزية والغيلية والإنجليزية.. وكانت تيمة التتويج هي «مدعو للخدمة».
وكان أسلوب التتويج وشكلُه حصلا على الموافقة الشخصية من الملك الجديد وترحيبه، هو الذي كانت لديه، على كل حال، 70 عاماً للتفكير في هذا اليوم على اعتبار أنه حضر مراسم 1953 عندما كان في الرابعة من عمره. وتواصلت الاحتفالاتُ خلال عطلة نهاية الأسبوع بحفل ناجح في قلعة ويندسور.
وعلى نحو حتمي، أثارت هذه الطقوسُ العديدَ من الأسئلة: فهل سيكون تشارلز قادراً على الحفاظ على معدلات التأييد القوية من قبل الجمهور للملكية بالنظر إلى الشعبية والاحترام اللذين كانت تحظى بهما والدتُه؟ وهل سيكون قادراً على الترويج لآرائه القوية بشأن تغير المناخ والزراعة والهندسة والكثير من المواضيع العزيزة على قلبه، بعد أن أصبح ملكاً؟ وهل يستطيع تقليصَ حجم ونفقات العائلة الملكية في زمن التقشف؟ وما الذي يستطيع فعله لحل أزمات الأسرة المرتبطة بابنه هاري وشقيقه آندرو؟
حتى الآن، يبدو سجل الملك تشارلز الثالث واعداً. فحتى الأمس القريب، كان يُعتقد أن زوجته الملكة كاميلا تشكّل عبئاً على الملك، نظراً لأنه كان يُنظر إليها على أنها أحد أسباب فشل زواجه من ديانا، التي ما زالت محبوبةً من قبل الجمهور والتي أدّت وفاتها في عام 1997 إلى تحدٍّ صادم للعائلة الملكية. ولكن على نحو تدريجي وحذر، يبدو أن كاميلا أخذت تكسب رضا الكثيرين. فمنذ أن أصبح تشارلز يحظى بشعبية متزايدة، يبدو أن الشعور السائد الآن هو أن سعادته مع زوجته إنما تصبّ في مصلحة البلاد.
ولعل أصعب فترة في حكمه ستكون قبول سعي العديد من المستعمرات السابقة، والتي ما زالت دساتيرها تعتبر الملك البريطاني رئيساً للدولة، إلى إنهاء هذا التقليد، وكذلك قبول سعي بعض البلدان للحصول على اعتذارات وتعويضات من بريطانيا عن الخطايا السابقة للفترة الاستعمارية مثل العبودية. وقد يتعين على تشارلز أيضاً مواجهة ألم انفصال اسكوتلنديا عن المملكة المتحدة في حال تمكن الحزب القومي الاسكتلندي من استعادة شعبيته وأصواته تأييداً للانفصال. لكن في الوقت الحالي من حكمه الجديد، يمكن القول إنه حقق انطلاقةً جيدةً.
*هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن موقع الأمة برس-الاتحاد-