أميركا ومواجهة حقائق التاريخ
2023-01-28
جيفري كمب
جيفري كمب

«الحروب الثقافية» التي باتت تهيمن على الخطاب السياسي في العديد من الديمقراطيات ليست ظاهرةً جديدةً. وهي تغطي مواضيع كثيرة مثل حقوق النساء، والإجهاض، وقوانين السلاح، والتمييز العرقي، والحرية الدينية، وسياسات الهوية الجنسية، وتدريس التاريخ.

في يوليو عام 1925، بدأت أطوار قضية قانونية تعرف بـ«محاكمة سكوبس» في دايتون بولاية تينيسي. كان جون سكوبس أستاذاً في مدرسة ثانوية واتُّهم بانتهاك «قانون باتلر» في تينيسي، الذي جرّم تعليم نظرية النشوء والتطور في مدارس الولاية وجعَله عملاً منافياً للقانون. المحاكمة استقطبت اهتماماً على صعيد العالم، وتميزت بمشاركة محاميين أميركيين شهيرين. فمن جهة، كان هناك ويليام جينينجز برايون، وهو سياسي ترشح للرئاسة الأميركية ثلاث مرات، ووزير خارجية سابق، وأصولي مسيحي متشدد، وقد ترافع في القضية لصالح الادعاء العام. وعلى الجهة المقابلة، كان هناك كلارنس دارو، وهو محامٍ لا يقل عنه شهرةً، وقد مثّل «الحداثيين» الذين أقروا بأن نظرية النشوء والتطور لا تتماشى مع تعاليم الكتابين المقدسين (اليهودي والمسيحي)، لكنها نظرية علمية. وفي ختام تلك المحاكمة، أدانت المحكمةُ سكوبس وحكمت عليه بغرامة قدرها 100 دولار، لكنه برِّئ في ما بعد بسبب جزئية تقنية قانونية.

واليوم، أصبحت الأشياء التي يمكن تدريسها في مدارس الولاية موضوعاً ذا شعبية بالنسبة للعديد من السياسيين «الجمهوريين»، بمن فيهم حاكم ولاية فلوريدا رو دي سانتيس الذي أعيد انتخابه مؤخراً. ديسانتيس أصبح شخصيةً وطنيةً ويُنظر إليه من قبل الكثيرين على أنه الرجل الذي من الأرجح أن ينافس دونالد ترامب على زعامة الحزب الجمهوري، والذي، في حال فوزه، سيصبح المرشح الذي سيتنافس على الرئاسة في انتخابات نوفمبر 2024. وقد خاض حملةً قويةً ضد العديد من القضايا الثقافية التي يدعمها «الديمقراطيون» عادةً، ومن ذلك ما هي المواد التي تستطيع أو لا تستطيع المدارسُ المموَّلة من الولاية تدريسَها لطلبتها؟ وأحدث أهدافه هو المنهاج التعليمي المقترَح في مدارس فلوريدا لدورة متقدمة في الدراسات الأميركية الأفريقية تشمل مناقشات حول مواضيع حساسة من قبيل تاريخ العنصرية في الولايات المتحدة، لاسيما معاملة الأميركيين السود قبل الحرب الأهلية الأميركية وبعدها، وأسئلة معاصرة حول التمييز على أساس الجنس والعرق. ويقول دي سانتيس إن تدريس هذه المواضيع يرقى إلى «شحن أيديولوجي» وينبغي ألا يكون له مكان في غرفة الدرس.

وعلى نحو حتمي، تسببت أفعاله في ردٍّ قوي من الليبراليين، لكن رد الفعل هذا لا يمكن إلا أن يساعد دي سانتيس على جمع مزيد من الأموال من أتباعه المحافظين، وبالتالي، تزويده بموارد أكبر لخوض حملة على صعيد البلاد كلها من أجل انتخابات البيت الأبيض. ويقول منتقدون إن دي سانتيس بتدخله المباشر في المنهاج التعليمي في مدارس فلوريدا، سيثني أفضل الأساتذة والمعلمين عن اختيار العمل في ولايته، وسيضمن مع الوقت تحوّل فلوريدا إلى ولاية متخلفة ترفض الاعتراف بالحقائق الصلبة بخصوص التاريخ الأميركي، وخاصة معاملتها للأقليات.

هذا جزءٌ من نقاش وطني حول كيفية مواجهة حقائق التاريخ التي تشمل الأمثلة الحسنة والقبيحة والشنيعة لصعود أميركا لتصبح أغنى بلد في العالم.

بيد أن هذه ليست مشكلةً أميركيةً فقط، ذلك أن معظم البلدان التي تزعم اليوم أنها ديمقراطية ومدافعة عن حقوق الإنسان الكونية، لديها قائمة طويلة بجرائم ومظالم تاريخية ارتُكبت في الماضي. وفي ما عدا ألمانيا وجنوب أفريقيا اللتين واجهتا بشكل صريح الأفعالَ الشريرةَ التي ارتكبتها حكوماتهما السابقة، يظل الاعتراف بآثام وجرائم الماضي مهمةً صعبةً بالنسبة لمعظم البلدان. فقد كان الأوروبيون يسيطرون على المستعمرات عبر العالم كله في الماضي: ومع ذلك، ما زالت المحاسبة الكاملة لهم عن سجلّهم غائبة. ومن جانبها، ينبغي على اليابان أن تواجه ملف علاقتها بجيرانها في الماضي، وخاصة الصين وكوريا. ولئن كانت علاقة بريطانيا الصعبة مع إيرلندا قد تحسّنت ببطء، فإنها لم تُحل بشكل كامل بعد.

والحق أن تدريس التاريخ ليس سهلاً، وهو عرضةٌ للاستغلال وسوء الاستخدام. لكن تجاهل حقائق الماضي أو حجبها يمثّل طريقةً مضمونةً لإضعاف أحد المكونات الأساسية لمجتمع حر، أي الرغبة في الاعتراف بارتكاب أخطاء ومظالم والتكفير عنها بشكل صريح.

*هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن موقع الأمة برس- الاتحاد-



مقالات أخرى للكاتب

  • القوة الأميركية بعد «عاصفة الصحراء»
  • نهر نهاية العالَم الجليدي
  • دراما الانتخابات الأميركية





  • كاريكاتير

    إستطلاعات الرأي