عن إليزابيث الثانية التي جسدت الملكة في عالم شهد أفول النفوذ البريطاني
2022-09-13
بيل ترو
بيل ترو

عرفت بأنها "ملكة المليون ميل"، بعد زيارتها 120 دولة تقريباً في إطار عهدتها الملكية التي استمرت 70 عاماً، يعادل مجموع المسافة التي قطعتها في أسفارها رحلتين إلى القمر، ذهاباً وإياباً.

على الرغم من الخلافات الملكية والمقاومة كما الانتقادات التي واجهها النظام الملكي البريطاني، وبروز الحركات المناهضة للاستعمار وزوال الإمبراطورية، نجحت الملكة في الحفاظ على موقعها باعتبارها أكثر الحكام المعروفين في التاريخ الحديث، ولا يمكن لأي شخص سواء كانت ولاءاته ملكية أو جمهورية، أن ينكر تأثيرها الهائل في الساحة الدولية.

وتأكيداً على هذا التأثير، قوبلت أنباء وفاتها يوم الخميس برد فعل عالمي ضخم، وسيل من التعبير عن الحزن، لخص الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون هذه النقطة بإيجاز إذ قال "بالنسبة إليكم، كانت ملكتكم. أما بالنسبة إلينا، فكانت الملكة المطلقة'. حتى أن الحكومة البرازيلية أعلنت الحداد الرسمي لمدة ثلاثة أيام تكريماً لها.

أسست إليزابيث الثانية دوراً فريداً لها كملكة دولية عصرية وحافظت على إعجاب مستمر في الخارج، وتميز عهدها بأفول النفوذ البريطاني في العالم، تزامناً مع رد الفعل السلبي على مفاهيم الاستعمار كما انهيار ما سمي الإمبراطورية البريطانية وانكشافها. عندما اعتلت العرش بعد وفاة والدها في عام 1952، كانت المملكة المتحدة تمتلك أكثر من 70 إقليماً في الخارج.

أما عند وفاتها، فكانت الملكة تحكم 14 منطقة ضمن إطار دول الكومنولث، إضافة إلى المملكة المتحدة، معظمها جزر متفرقة لا يتخطى عدد سكانها مجتمعين 300 ألف شخص.

ومع ذلك، إن اقتبسنا كلام الرئيس ماكرون مجدداً، ظلت هي الملكة المطلقة لمدة سبعين عاماً، شقت بذكاء مساراً صعباً ومضطرباً للملكية، وأعادت تشكيل هويتها بتأن وحافظت بهذه الطريقة على موقع لها على الساحة العالمية.

أينما ذهبت احتشد الناس حولها، كما يقول مسؤولها الإعلامي السابق ديكي آربيتر، ويذكر أنها "استقبلت بحفاوة أينما توجهت. إذ أتى الناس لملاقاتها، ربما لم يأت الجمهوريون لكن الأغلبية حضرت. أرادوا رؤية الملكة".

وهذا ما حصل حتى بعد الاستفتاء الشعبي الأسترالي حول التحول إلى جمهورية في عام 1999 حين صوت الشعب لصالح الإبقاء على الملكية بهامش ضئيل جداً، وعندها أيضاً احتشد الناس على جانبي الشوارع.

ويضيف آربيتر "كانت شخصية عالمية فريدة من نوعها، وكانت قوةّ جامعةً للناس. أعتقد بأن ذلك يعود إلى شخصها وإلى ما كانت تمثّه، وإلى أنها موجودة منذ وقت طويل. إذ كان وجودها من الثوابت في حياة معظم الناس، وحظيت باحترام ملائم".

تكررت هذه الكلمات في تصريحات القادة السياسيين السابقين في معرض تأملهم في حياتها وإرثها بعد الإعلان عن وفاتها. وفي هذا السياق، قال كيفن راد، رئيس الوزراء الأسترالي السابق لإذاعة "بي بي سي" إنه ووالدته اعتبراها "شخصاً يمتلك قوة جامعةً هائلة".

ومن جهته، قال جون ميجور إنها كانت مطلعة بشكل استثنائي ومذهل على القضايا الخارجية، وهو أمر كان له تأثير دامغ.

واتفق الجميع على أن هذا ما سمح لها بأن تفطن إلى أمر حيوي، هو تغير الأزمنة. وحسب تعبير آربيتر، حرصت خلال تلك الرحلة المهمة إلى أستراليا أن تقول في الخطاب الذي ألقته عند وصولها، إن قضية الجمهورية مسألة تعود للشعب الأسترالي "وحده يقررها".

وصلت الملكة إليزابيث الثانية إلى سدة الحكم في عالم مختلف، وفي عيد ميلادها الحادي والعشرين أثناء وجودها في جنوب أفريقيا قبل خمس سنوات من تنصيبها ملكة، أدلت بتصريحها الشهير الذي قالت فيه، إنها ستكرس "حياتها لخدمة عائلتنا الإمبريالية العظيمة التي ننتمي إليها جميعاً".

لكن مع حلول زمن اعتلائها العرش (بينما كانت تقضي العطلة في كينيا (البلد الذي أعلن استقلاله بعد 11 عاماً من ذلك التاريخ) أدركت أن الزمن تغير.

قال الأشخاص الذين عرفوها وعملوا معها إنها رأت وأقرت بحركة الاستقلال التي انتشرت عبر القارة الأفريقية، وفهمت الحاجة المتزايدة لإقامة علاقة مختلفة مع دول الكومنولث التي أحبتها، ولتشكيل ملكية من نوع جديد، لا تشبه المسار الذي خطته جدة جدتها الكبرى الملكة فيكتوريا التي اشتهرت بأنها لم تبتعد عن أوروبا.

فلنأخذ حفل تتويجها مثالاً، كان أول حفل تنصيب يبث على شاشات التلفزيون، ويتابعه بالتالي جمهور عالمي، ليس على سبيل المصادفة إذاً أن خطواتها الأولى بعد اعتلاء العرش ضمت جولة موسعة على الكومنولث.

وقد عُرفت بأنها أول من بدأ التقليد المسمى الآن "جولة المسير" أثناء وجودها في نيوزيلندا، وكانت الجولة ببساطة عبارة عن خروجها من السيارة ولقاء الناس وتحيتهم شخصياً، لكنها خلقت فرصاً كثيرة لالتقاط الصور، وأصبحت مصدر متعة للجماهير، وأرست معياراً لتصرف الملوك في كل أنحاء العالم.

لم يكن من قبيل المصادفة كذلك أنها سافرت في بداية حكمها إلى غانا، وهي مستعمرة سابقة، وهناك التقطت لها تلك الصورة الشهيرة وهي ترقص مع كوامي نكروما، أول رئيس غاني بعد حصول البلاد على استقلالها.

في ثمانينيات القرن الماضي اصطدمت مع رئيسة وزرائها حينها مارغريت تاتشر، بسبب رفض دعم تشديد العقوبات على جنوب أفريقيا التي تمارس الفصل العنصري، في أعقاب اجتماع قمة رؤساء حكومات دول الكومنولث.

وذكر سير سوني رامفال، أمين عام الكومنولث الغياني الجنسية، لاحقاً لهيئة الإذاعة البريطانية، "بي بي سي" "عُرف عن الملكة تعاطفها مع القضية الأفريقية، وليس مع أي استراتيجية أو عمل محدد.

"لكن بشكل عام، أدركت بأن الوقت قد حان لتغيير الاتجاهات السائدة في جنوب أفريقيا".

"حملت منذ نشأتها منظوراً دولياً… وكانت لتدرك تطلعاتهم نحو الحرية".

وطوال الوقت، "مهدت الطريق" أمام الدبلوماسية البريطانية، والأهم أنها فتحته أمام عالم الأعمال، كما يقول آربيتر، الذي رافقها في ثلاث زيارات رسمية كصحافي، ويذكر رحلة ملكية إلى الصين انضم إليها وفد من رجال الأعمال البريطانيين الذين تمكنوا من التوصل، بعد طول انتظار، إلى اتفاق على عدد من العقود المتعثرة.

ويقول "أبرموا عقوداً بقيمة ملايين الجنيهات بفضل الزيارة الرسمية. سوف يترك رحيلها أثراً جسيماً في المملكة المتحدة، فزياراتها فتحت الباب أمام التجارة والأعمال، وخلقت وظائف وعززت الاقتصاد".

فيما اشتهرت إليزابيث الثانية بالكتمان في ما يتعلق بمعتقداتها السياسية (وعواطفها)، كانت تعبر عن مواقفها من خلال تصرفاتها، حتى في مرحلة متقدمة من مسيرتها المهنية، حيث استمرت بالسفر على الرغم من تقدم سنها.

في عام 2011، قامت بأول زيارة لعاهل بريطاني إلى إيرلندا خلال 100 عام، ووضعت إكليلاً من الزهور على نصب تذكاري للقتلى الذين قضوا وهم يحاربون البريطانيين، سعياً لتحقيق الاستقلال، وكما قال الرئيس الإيرلندي مايكل دي هيغينز بعد وفاتها، "لم تتجنب (الملكة) ظلام الماضي" خلال رحلتها حين "أرست علاقة جديدة بين أمتينا، فيها تطلع إلى المستقبل".

وقامت برحلتها الأخيرة إلى الخارج في عام 2015، حين قصدت مالطا في التسعين من عمرها تقريباً، بعد ذلك، واصلت استقبال القادة الأجانب داخل المملكة المتحدة، وظلت على رأس عملها حتى أيامها الأخيرة.

خلفت الملكة إليزابيث تأثيراً ضخماً، ولكن يرجح أن تثير وفاتها ضغوطات جديدة باتجاه التغيير.

سارعت شخصيات جمهورية مثل رئيس حزب الخضر الأسترالي، آدم باندت، إلى تقديم واجب التعزية المقرون بدعوات التغيير وفتح نقاش حول وضع الملكية الدستوري.

لكن نائبة باندت، السيناتور عن نيو ساوث ويلز مهرين فاروقي، عبرت بطريقة مباشرة أكثر، فقد قدمت واجب التعزية "لمن عرفوا الملكة" قبل أن تضيف "لكنني لست قادرة على الحزن على زعيمة إمبراطورية عنصرية قامت على سرقة أرواح وأراضي وثروات الشعوب المستعمرة".

سوف يضطر الملك تشارلز الثالث أن يسير على درب مختلف عن والدته في هذا العالم المتغير بسرعة.

وسوف يكون عليه أن يرقى إلى مستوى إرثها.

*هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن موقع الأمة برس – اندبندنت عربية-



مقالات أخرى للكاتب

  • تداعيات الحرب أقسى على النساء والفتيات منها على الرجال
  • نهاية الحرب في أوكرانيا أبعد من أي وقت مضى  
  • ألم يحن الوقت لفتح التاريخ الإمبراطوري ومواجهة بريطانيا لماضيها؟





  • كاريكاتير

    إستطلاعات الرأي