سياسة أمريكا ونموذج Apple
2022-03-31
بسام البنمحمد
بسام البنمحمد

التشابه بين الإطار الشامل للسياسة الأمريكية ونموذج شركة أبل يكاد يكون متطابقاً، فأهم ما تملكه وتقدمه شركة أبل ليس هواتف iPhone لوحدها ولا أجهزة iPad إنما هو نظام وبيئة خدماتها المتكاملة مع بعضها البعض ecosystem، ابتداءً من Apple store متجر أبل للتطبيقات وأجهزتها الإلكترونية التكاملية من هواتف وأجهزة لوحية وأجهزة كمبيوتر وتطبيقات الموسيقى iTunes ونظام التخزين السحابي Apple cloud وساعات Apple Watch وصولاً لنظام الدفع المالي Apple Pay، فكل هذه المنتجات والخدمات المترابطة والمتكاملة (integrated products) تعمل بشكل حصري مع بعضها البعض فلا يمكن أن يستخدمها إلا من يملك هذه الأجهزة ولا يستطيع من يملك هذه الأجهزة أن يدمجها مع منتجات لشركات منافسة أخرى تعمل وفق أنظمة أخرى مثل نظام إندرويد المستخدم من قبل أغلب الشركات المنافسة لأبل، فشركة أبل تدعي أنها تقدم تجربة مستخدم أفضل عندما يقتني أجهزتها المتعددة وهذا ما يصعب على منافسيها تقديمه ولذلك يحاولون أن يجعلوا خدماتهم ومنتجاتهم متوافقة مع أنظمة الشركات الأخرى وعدم اشتراطهم التعامل معهم فقط، إنما تبقى تجربة أبل التكاملية أنجح بسبب التفوق التكنولوجي والجودة العالية وريادتها للابتكار.

كذلك تفعل الولايات المتحدة الأمريكية، فهي تقدم لمن يتعامل معها، سواء كانوا شركاء استراتيجيين أو حلفاء، المنتجات والخدمات المتكاملة ابتداءً من أنظمة الحماية الدفاعية والعسكرية والأمنية والتعاون الاستخباراتي واتفاقيات التجارة الحرة والتبادل التجاري والمنتجات الدقيقة والتكنولوجيا المتطورة والتعامل ضمن النظام المالي العالمي بزعامتها وأدواتها مثل السويفت والدولار. في مقابل عدم تعامل هذه الدول مع أنظمة منافسة لها، فلا تسمح لحلفائها أو شركائها باقتناء أنظمة دفاعية أو عسكرية من دول منافسة لها مثل ما فعلت تركيا عندما اقتنت منظومة صواريخ S400 الروسية مما دفع الأمريكان لممارسة ضغوط علنية غير مسبوقة لدفع تركيا للتراجع أو عندما اقتنت السعودية منظومة صواريخ دفاعية من الصين، فأمريكا تشترط عندما تبيع (لا تقدمها مجانا) للدول الشريكة أو الحليفة أن لا يتعاملوا مع دول منافسة لشراء منتجات أو خدمات خارج النظام البيئي الأمريكي ecosystem.

وقد يكون هذا مفهوما بل ممكن أن يكون عنصر جذب لأمريكا وللدول التي تعمل ضمن النظام التكاملي الأميركي عندما يكون الربح مشتركا (win- win سيناريو)، وبالفعل استفادت كثير من الدول التي كانت ضمن المحور الأمريكي أيام الحرب الباردة من كل ما قدمته الولايات المتحدة الأمريكية لهم ومثل ما توعد شركة أبل بتقديم تجربة مستخدم أفضل عندما يقتنون منتجاتها وخدماتها دون غيرها، كذلك وعدت أمريكا وكانت الفائدة مشتركة بغض النظر عن من دفع أكثر ومن استفاد أكثر على حساب من.

إنما الإشكالية الخطيرة اليوم هي عندما اعتقدت بعض الإدارات الأمريكية المتعاقبة وبالذات إدارة بايدن الحالية أن خيارات الدول الحليفة والشريكة معدومة وهم مجبرون على التعامل مع أمريكا فقط ووفق المصالح الأمريكية لا وفق المصالح والربح المشترك، بل تمادت هذه الإدارة بأن تضر بمصالح الدول الحليفة والشريكة لدرجة تهدد استقرارهم وفي بعض الحالات تعرضهم لأخطار وجودية ومع ذلك تتصور وتطالب هذه الدول بأن يستمروا بالتعامل فقط ضمن النظام التكاملي (الشمولي) الأمريكي وخدمة لمصالحها دون مراعاة لمصالحهم أو مخاوفهم.

فها هي تتفاوض مع إيران وتقدم لها التنازلات برغم كل الأضرار الفعلية لا المتوقعة التي تطال دول الخليج العربي، ولا تخجل من مطالبة دول الخليج العربي بالتدخل ودعم مصالح أمريكا في أسعار وأمن الطاقة والأزمة الأوكرانية التي هي نتيجة لقرارات وسياسات وتصرفات أمريكا وردت فعل روسيا، على حساب مصالح دول الخليج وبما يضرهم.

فالإدارة الأمريكية الحالية ترتكب خطأ استراتيجيا كبيرا قد يعرض النظام العالمي كله للخطر وقد يسرع من تحول هذا النظام الذي استمر لأكثر من ٤٠ سنة على شكله الحالي والذي خدم مصالح أمريكا أكثر من أي دولة أخرى. على اعتبار أن حلفاءها وشركاءها لا يملكون خيارا آخر حتى لو تعرضوا لخطر وجودي، وأيضا افتراض أنها عندما تعرض هذه الدول لخطر وجودي من طرف ثالث (إيران في الحالة الخليجية وروسيا في الحالة الأوروبية) فهم سيهرولون لأمريكا يرتمون في حضنها لكي تحميهم من هذا الخطر الوجودي، معتقدة أنها تبقيهم تحت السيطرة وبحاجتها holding them in check كبديل عن سياسة الاحتواء containment policy التي استفادت منها أمريكا وعززت من هيمنتها للعالم عندما كانت الاستقطابات والربح المشترك متوازيين.

فحتى لو رضخت أوروبا اليوم بسبب استفزاز وتهديد ودفع الدب الروسي للهجوم وإجبار أوروبا للتخلي عن الغاز الروسي بعد تعريضهم لمعادلة أما مواجهة روسيا عدوانية أو أمن الطاقة؟ فقبلت أوروبا أن تكون أكثر حاجة لأمريكا عبر حصرها بشكل أكبر في النظام التكاملي الأمريكي لأن أوروبا كانت تعتمد على أمريكا في الحماية العسكرية والتعاون الاستخباراتي والسياسي لكنها كانت خارج النظام الأمريكي في موضوع الطاقة بسبب اعتمادها على روسيا وكذلك حاجتها للصين في الجانب التجاري والصناعي وحتى تكنولوجيا الجيل الخامس 5G. أما اليوم فأوروبا مستعدة لاستيراد الغاز الأمريكي المسال بكلفة أعلى بكثير من الغاز الروسي وتحمل كلفة إضافية لبناء بنية تحتية لاستيراد واستعمال الغاز المسال لم تكن تحتاجها بسبب سهولة وصول الغاز الروسي عبر خطوط الأنابيب الموجودة حاليا وسعره الإجمالي الأقل بكثير من غيره.

إنما على المدى المتوسط فهذه الأخطاء الاستراتيجية لأمريكا تدفع الأوروبيين للحديث عن إنشاء قوة عسكرية أوروبية لتقلل اعتمادهم على أمريكا وتتحدث أوروبا عن التوسع في علاقاتها الاستراتيجية والدفاع عن مصالحها بشكل مستقل عن أمريكا حتى وإن قيل هذا الكلام بصوت خافت ولكنه يعبر عن اهتزاز ثقتهم بالحليف الأمريكي الذي استبدل سياسة الربح المشترك بسياسة إخضاع الجميع للنظام التكاملي (الشمولي) الأمريكي. وكذلك الحال بالنسبة لدول الخليج العربي التي أصبحت أكثر استقلالية عن المصالح الأمريكية وأكثر توافقًا مع مصالحها الاقتصادية والأمنية والاستراتيجية، سواء كان من خلال موقفها من موضوع السياسة النفطية أو توسيع دائرة التحالفات كما شاهدنا مؤخرا في قمة النقب.

فعندما لا يكون الربح مشتركا وتكون الأضرار على طرف دون الآخر فوقتها استبدال نظام "أبل" بنظام "اندرويد" سيكون خيارا مطروحا بشكل جدي حتى وإن كان أقل جودة أو لم يكن بذات التطور والابتكار ولكنه سيكون أكثر صونا لمصالحنا ولن يعرض وجودنا للخطر. فهل ستعيد أمريكا حساباتها وتتبنى مبادئ المصالح المشتركة كما فعلت عندما طبقت سياسة الاحتواء؟ إن فعلت، سوف تستفيد أمريكا كما سنستفيد معها وإن لم تفعل فوقتها لن نخاطر بوجودنا لمصالح غيرنا.

*هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن موقع الأمة برس – العربية نت-



مقالات أخرى للكاتب

  • هل لدى الحزبين الديمقراطي والجمهوري ثوابت لا تتبدل؟
  • التطبيقات والأمن القومي للدول
  • الافضلية للمهارات ومفهوم جديد للبطالة






  • كاريكاتير

    إستطلاعات الرأي