بوتين والغرب الأطلسي: هل يُعذر قيصر أنذرهم مراراً؟
2022-02-25
 صبحي حديدي
صبحي حديدي

لم يعد في البيت الأبيض رئيس أمريكي يدعى باراك أوباما، كي يفرك يديه ابتهاجاً بتوريط الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في المستنقع الروسي؛ ولا رئيس خَلَف له يدعى دونالد ترامب، كي يغازل بوتين إلى درجة تسفيه الاستخبارات الأمريكية لصالح تأكيد مصداقية الكرملين؛ والذي في البيت الأبيض اليوم، جو بايدن، توهّم تسعير جولات جديدة من الحرب الباردة مع روسيا عبر مناوشات سيبرانية وتنويع العقوبات الاقتصادية، وتغافل (إذْ لا يعقل أنه، وهو رئيس القوّة الكونية الأعظم، قد غفل أو جهل) أنّ ما جمعته عواصف تفكيك الاتحاد السوفييتي في جعبة بوتين، القيصري النزوع والإمبراطوري الأهواء، يصعب أن تذروه رياح خفيفة عابرة، في شبه جورجيا أو شبه جزيرة القرم أو سوريا، فكيف بألعاب الهواة في الحلف الأطلسي على الحدود الأوكرانية ـ الروسية.
في عبارة أخرى، ومنذ أن قبض على مقاليد السلطة في روسيا ما بعد بوريس يلتسين، ثمّ أحكم القبضة عبر مسرحية تبادل الرئاسة مع تابعه ديمتري مدفيديف، وصولاً إلى تنظيم استفتاء يبقيه في هرم السلطة الأعلى حتى عام 2036؛ لم يتكلف بوتين عناء تمويه مقاصده في توطيد مواقع روسيا الجيو-سياسة على الخريطة العالمية: عبر التدخل العسكري المباشر في كوسوفو وجورجيا والقرم وسوريا وأوكرانيا اليوم، وغير المباشر (في استخدام مرتزقة «فاغنر») حيثما توجّب ذلك في أربع رياح الأرض؛ فضلاً عن اختراق الأنظمة المعلوماتية هنا وهناك، ابتداء من الانتخابات الرئاسية الأمريكية، ورعاية الفساد والاستبداد أينما اقتضت مصالح روسيا، ولا غضاضة في غمرة هذه الخيارات وسواها أن تلقى المافيات الروسية ما تحتاج إليه من عناية استخباراتية وأمنية وتشريعية…
وليس جديداً أن يُشار إلى تمتّع بوتين بشعبية لا يُستهان بها في الأوساط الروسية الشعبوية، أو تلك القوموية (بمعنى النزوعات المتشددة والانعزالية) وفئات الانصياع الأعمى لخطّ الكنيسة المسيحية الأرثوذكسية (كما يدري وضعه، في أذهان هؤلاء، ضمن مواجهة مستعصية مع الكنيسة الكاثوليكية والبروتستانتية)؛ ولن يكون جديداً، بالتالي، التفاف شرائح واسعة من الروس خارج هذه الفئات (مثل بقايا الشيوعيين السوفييت، اللينيين والستالينيين على حدّ سواء) خلف الحرب التي يزمع بوتين إشعالها في أوكرانيا، من منطلقات نوستالجية لا تبدأ فقط من الإمبراطورة كاترين أواسط القرن الثامن عشر، ولا تنتهي عند إعادة تعمير مناطق واسعة في أوكرانيا بإشراف رفيق سوفييتي يدعى ليونيد بريجنيف في أعقاب الحرب العالمية الثانية. قد يختلف هؤلاء مع بوتين وأجهزته في كلّ ما يتصل بالعيش والضنك الاجتماعي والاقتصادي والحريات السياسية ومافيات الفساد، وقد يهتفون ضدّه في التظاهرات التي يحرّكها سياسي صريح المعارضة مثل ألكسي نافالني؛ لكنهم اليوم سعداء بما يفعل بوتين في أوكرانيا، ومؤيدون له، بل لعلّ بعضهم يهتف بحياة ستالين (الذي ينسب إليه التاريخ المسؤولية عن فناء قرابة 3,9 مليون فلاح أوكراني) في ذروة الحماس لمعاقبة كييف.

لا هو بيت مجانين ولا سيّده بمجنون، والأحرى والأبسط هو استذكار العنصر الذي قد يكون الأبرز في عقلية بوتين الجيو ـ سياسية، وفي البنية الطاغية على مركّب شخصيته النفسية، أي النزوع الإمبراطوري/ القيصري إلى إحياء روسيا العظمى

وفي الخلفية الاجتماعية ـ الإيديولوجية، كانت وما تزال تحتدم في روسيا معركة داخلية حامية الوطيس، عابرة للتلاوين السياسية والتنظيمية، وقادرة حتى على تحييد صراعات الفساد واقتسام الثروات وشبكات الولاء؛ تدور بين استقطابين عملاقين تتمحور من حولهما وتلتقي فيهما، أو على النقيض منهما، جملة التيارات الليبرالية الكلاسيكية والـ»نيو ـ ليبرالية» والشيوعية والاشتراكية الإصلاحية و«اشتراكية السوق» والنزعات القومية المعتدلة أو تلك المتطرفة. وكانت المعركة تصنع كلّ يوم، وتُبلور أكثر فأكثر، تيّارين مركزيين باتا جزءاً لا يتجزأ من الفسيفساء المعقدة التي رسمت قسمات روسيا ما بعد الحرب الباردة: الاستقطاب الاستغرابي (نسبة إلى الغرب والتواريخ المشتركة والأواصر الثقافية والدينية مع روسيا القياصرة)؛ والاستقطاب الأورو ـ آسيوي (نسبة إلى موقع روسيا الفريد على التخوم الحاسمة لقارّتين شهدتا وتشهدان أعمق الصراعات الحضارية على مرّ التاريخ). وهذا سجال يعود إلى القرن السابع عشر زمن القيصر بطرس الأكبر، لكنه لا يكفّ عن احتلال أفئدة الروس، قبل عقولهم في الواقع، كلما اندلع نزاع يمسّ هوية روسيا وشخصيتها الحضارية والتاريخية؛ كما هي الحال هذه الأيام، بصدد أوكرانيا والغرب والحلف الأطلسي.
ليس مدهشاً، في المقابل، أن يجد بوتين شرائح مناصرة له في قلب مجتمعات غربية ولدى ساسة في أنظمة ديمقراطية، على غرار ما يتمتع به من تأييد لدى ثلاثة على الأقلّ من المرشحين للانتخابات الرئاسية الفرنسية هذا العام: زعيمة اليمين المتطرف مارين لوبين، الزعيم الجديد لليمين العنصري الفاشي إريك زيمور، وزعيم تيار «فرنسا الأبية» اليساري جان – لوك ملنشون. أسبابهم تتفاوت بالطبع، غير أنّ المرء لا يعدم ذريعة «السيادة الوطنية» لدى الأولى، والكنيسة المسيحية لدى الثاني، ومقارعة الإمبريالية لدى الثالث. بعض أوساط اليسار الأمريكي تعتمد، بدورها، الذريعة الأخيرة الأردأ من حيث التغطية الإيديولوجية العامة والتعميمية؛ لكنها، عند تبرير جرائم بوتين في جورجيا والقرم وسوريا وأوكرانيا، تفعّل مكاسب محاربة «الإرهاب» كما تزعم أنّ التدخل العسكري الروسي حقّقها تارة، أو التمييز تارة أخرى بين حقّ تقرير المصير مقابل وحدة الأراضي الوطنية، على غرار منطقتَيْ دونيتسك ولوغانسك الانفصاليتين اللتين اعترف بوتين باستقلالهما عن أوكرانيا.
ليس أقلّ جدارة بالتذكير سابقة الشيشان، وتلك بدورها كانت جولة اجتياح بدأ بتدخل خارجي، مع فارق أنّ واشنطن وغالبية أعضاء الحلف الأطلسي كانوا، ساعة الغزو بالضبط، يحتفلون بالرئيس الروسي الأسبق يلتسين، ضيفاً عزيزاً مكرّماً في قمة هاليفاكس لعمالقة الكون السبعة. من جانبها كانت تقارير الصليب الأحمر الدولي تفيد، رسمياً، بعدم وجود أي أسير شيشاني في قبضة الجيش الروسي، ليس لأيّ اعتبار آخر سوى أنّ هذا الجيش لا يعترف بتسمية كهذه! أمّا في ميادين الاجتياح، فقد كان الجيش الروسي يعيد إنتاج حلقات العنف ذاتها التي حكمت علاقة السلطة المركزية الروسية بالشيشان طيلة عقد التسعينيات؛ الأمر الذي سوف يُعاد إنتاجه، أكثر وحشية وعنفاً، على يد بوتين وجنرالاته، أواخر القرن المنصرم.
وقبل وقت غير بعيد توفّر تصريح شهير، عالي البلاغة والجسارة، يصف أوضاع الرئاسة الروسية هكذا: «رائحة احتضار الكرملين، ممتزجة بجنون سيّده، تفوح من هذه القرارات العجيبة» قال بوريس نمتسوف الذي كان قبيل التصريح عضواً بارزاً في «الحلقة الإصلاحية» الضيّقة المحيطة بشخص يلتسين إحاطة السوار بالمعصم. قبله كان غينادي زيوغانوف، زعيم الحزب الشيوعي الروسي ورئيس كتلته في الدوما، قد اقتبس فيودور دستويفسكي ليصف الكرملين: «ستّة رؤساء وزارة في 18 شهراً… ألسنا بالفعل في بيت مجانين؟». ليس تماماً، إذا شاء المرء الركون إلى حدّ أدنى من الإنصاف، وليس أيضاً لأنّ حزب زيوغانوف بارك اعتراف بوتين بالانفصاليين في دونيتسك ولوغانسك، وانضمّ بالتالي إلى ركب سياسات بوتين الأوكرانية، بل اعتنق حرفياً خطاب الكرملين الرسمي الذي يقول إنّ سبب الأزمة الراهنة هو عزم «القوى الفاشية» في كييف على تنظيم مذبحة في منطقة دونباس بحقّ المواطنين الروس هناك.
لا هو بيت مجانين، إذن، ولا سيّده بمجنون؛ والأحرى، بل الأبسط في الواقع، هو استذكار العنصر الذي قد يكون الأبرز في عقلية بوتين الجيو ـ سياسية، وفي البنية الطاغية على مركّب شخصيته النفسية، أي النزوع الإمبراطوري/ القيصري إلى إحياء روسيا العظمى. ليس كيفما اتفق، للإنصاف هنا أيضاً، بل لأنّ جرائم سيّد الكرملين في كوسوفو والشيشان وجورجيا وشبه جزيرة القرم وسوريا وأوكرانيا ارتُكبت عن سابق قصد وتصميم؛ حتى أنّ التساؤل المشروع يقول: خلال جولاته مع الغرب الأطلسي، هل يُعذر قيصر أنذرهم، مراراً وتكراراً!

*كاتب وباحث سوري يقيم في باريس - القدس العربي
*هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن موقع الأمة برس

 



مقالات أخرى للكاتب

  • «سلّة خبز العالم»: حصار روسيا لا يجوّع سوى فقراء الكون
  • الحرب الباردة: من برقية X إلى طائرة «يوم القيامة»
  • أسانج والعود على بدء «ويكيليكس»





  • كاريكاتير

    إستطلاعات الرأي