العالم أصبح ذكيا.. ولكن، ماذا ربحنا وماذا خسرنا؟
2021-12-09
علي قاسم
علي قاسم

ليس الطقس وحده ما يبعث على الكآبة في لندن. منذ اللحظة الأولى لدخول الممرات التي تصل بك إلى قاعة الوصول في المطار، لن تجد وجوها سواء كانت مكفهرة أو باسمة، عليك أن تتعامل مع شاشات إلكترونية تصل إليها بعد أن تجتاز طابورا طويلا من المسافرين. وبدلا من أن تمد جواز سفرك لشرطي، تمده إلى سكانر يطلب منك أن تحدق في شاشة صغيرة أمامك. وبعد ثوان تخالها دهرا، يطلب منك أخذ الجواز والاستمرار في طريقك.

ثلاث سنوات فقط كانت كفيلة لتبدل كل شيء؛ معظم فروع البنوك التي كانت تنشر في الأسواق اختفت ولم يعد لها وجود. وإذا نجحت وعثرت على فرع للبنك الذي تتعامل معه لن تجد النوافذ التي اعتدت على الوقوف أمام واحدة منها والتعامل مع موظف بشري. اختفى الموظفون، وحلت مكانهم أجهزة باردة عليك أن تتعامل معها.

هذا هو الجزء الظاهر من جبل الجليد، ما خفي أعظم.

ما يحدث في البنوك يحدث في الأسواق وفي وسائل النقل وفي جميع المعاملات الحكومية. متاجر تحمل أسماء شهيرة تقفل أبوابها، مكتفية بالبيع عبر الإنترنت. حتى المطاعم بدأت تفقد تدريجيا روادها الذين باتوا يفضلون طلب وجباتهم لتصلهم للمنزل. وطبيب الأسرة لم يعد يستقبلك في عيادته بل من خلال موقع على الإنترنت.

كل الحق على كورونا، هذا ما يتفق عليه الجميع. ولكن، هل ما يحدث هو بفعل كورونا الذي فرض التباعد الاجتماعي؟

هكذا يبدو الأمر من الخارج، دعونا نتريث قليلا وندقق. كورونا ليس سوى مذبّة استخدمتها الحكومات والشركات العملاقة ذريعة لفرض التكنولوجيا.

ولكن، لماذا تحتاج الحكومات إلى ذريعة، أليست التكنولوجيا شيئا جميلا طالما احتفت البشرية به، منذ أن اخترع السومريون العجلة وصولا إلى الطائرة؟

فوائد التكنولوجيا أكبر من أن تعد، والشواهد على ذلك أكثر من أن تحصى؛ في الطب، والنقل، والزراعة والبناء، والبيئة، والتعليم، الإدارة.. ألا يكفي هذا وحده ليكون ذريعة لتبني الحلول التكنولوجية؟

عندما نتحدث عن مساوئ التكنولوجيا، وفي مقدمتها الذكاء الاصطناعي والتعلم العميق وتعلم الآلة، نقف طويلا عند فقدان الوظائف. وهو موضوع اشبع بحثا، وهناك شبه إجماع على أن المخاوف من فقدان الوظائف مبررة. ورغم ذلك هي من أهون الشرور.

طالما أثارت الابتكارات التكنولوجية مخاوف من هذا النوع. وهي مخاوف مبررة على المدى القصير، ولكنها لا تصدم طويلا على المدى البعيد.

التكنولوجيا التي تتسبب بفقدان الوظائف سرعان ما تخلق فرص عمل تتجاوز عدد الوظائف المفقودة.

إذن، ما هي المخاوف من تسلل التكنولوجيا إلى كل تفاصيل حياتنا، صغيرها وكبيرها، ولماذا الأمر مختلف اليوم عما كان عليه في الماضي؟

التكنولوجيا، وليس كورونا، تسببت بحالة من العزلة يعيشها البشر. عزلة لفحت برودتها وجهي من اللحظة الأولى التي وطأت بها قدمي قاعة الوصول في مطار هيثرو اللندني، رغم حشود المسافرين القادمين من مختلف بقاع الأرض، جميعهم يحدق بشيء واحد؛ الهاتف الذكي.

العالم الاعتيادي من حولهم يفقد قيَمَه، وهو ما وصفه عام 1957 الكاتب البريطاني كولن ويلسون بـ”فقدان القدرة على الدهشة”، حيث تتحول الحياة إلى، أو ما يشبه، شاشة السينما حين تكون بيضاء.

العزلة التي تحدث عنها ويلسون، عزلة وجودية، لا تختلف كثيرا عن العزلة التي تحدث عنها ألبير كامو، وجان بول سارتر، وأرنست همنغواي. هي غالبا عزلة شريحة محدودة من المثقفين الذين شككوا بجدوى الحياة.

العزلة التي وجدنا أنفسنا فيها اليوم، وإن أفقدتنا الإحساس بالدهشة، هي عزلة من نوع آخر، فرضت علينا بفعل التطور التكنولوجي الحاصل وليس بفعل جائحة كورونا.

لنتخيل العالم وقد أصيب بجائحة كورونا، بغياب التكنولوجيا الرقمية والذكاء الاصطناعي، حتما ستكون الخسائر في الأرواح أكبر.

كورونا سرع من تبني الحلول التكنولوجية، وكانت مجرد ذريعة لتبني تلك الحلول. بكورونا أو دونه ما حصل كان سيحصل وإن تأخر بضع سنوات. لقد خرج المارد من القمقم ولن يستطيع أن يعيده أحد إليه.

غدا أغادر لندن عائدا إلى تونس، لأواجه سؤالا طالما وجه لي: ماذا في تونس يغريك على البقاء وأنت تحمل الجنسية البريطانية؟

في تونس حانات ومقاه يرتادها أناس طيبون، هناك من يتخاصم معك، ويعبر عن مشاعره دون تحفظ. هناك حارات مليئة بالقطط والكلاب المشردة تبحث في القمامة عن طعامها، هناك شوارع مليئة بالحفر والمشاعر الإنسانية.

أول ما كتبته عن تونس منذ عشرين عاما كان بعنوان “تونس ليست مدينة فاضلة، تونس مدينة من لحم ودم وعرق”.

في تونس لا أخشى أن أفقد القدرة على الدهشة. وفي تونس أتعامل مع بشر من لحم ودم وليس مع آلات باردة. ولهذا أحب تونس.

نتحدث عن مخاوف من يوم تسيطر فيه الروبوتات على حياة البشر، بينما الأجدر أن نتحدث عن مخاوف من تحول البشر إلى روبوتات مبرمجة، تتقن القيام بكل المهام التي توكل إليها، وتفقد مهارة التواصل مع الآخرين.

كل شيء في حياتنا أصبح افتراضيا، أو في طريقه ليصبح افتراضيا: المدرب الشخصي، الطبيب، المدرس.. حتى الأصدقاء هم اليوم أصدقاء افتراضيون. المجتمعات تسير بسرعة ودون وعي لتصبح مجتمعات افتراضية أشبه ما تكون برواية من روايات الخيال العلمي.

العالم أصبح ذكيا، أو في طريقه ليصبح ذكيا، نعم. ولكن، ماذا ربحنا وماذا خسرنا؟


*كاتب سوري مقيم في تونس



مقالات أخرى للكاتب

  • غزة تفتقد ناجي العلي
  • موقف موسكو الصعب وموقف بكين الأصعب
  • تونس.. البلد الذي أنهى عصر الأحزاب






  • كاريكاتير

    إستطلاعات الرأي