ماذا يعني أن تكون شيعياً في لبنان اليوم؟
2019-12-15
حنين غدار
حنين غدار

 

يحدث الآن تحولان رئيسيان ضمن النظرة الجماعية للمجتمع في أوساط الشيعة في لبنان. أولاً، تتحول الهوية الشيعية اللبنانية من هوية طائفية إلى هوية وطنية، بسبب التكاليف التي تحملّها المجتمع الشيعي خلال العقد الماضي. وثانياً، ثمّة تحوّل متزايد عن سرد المقاومة، الذي يُنظَر إليه أكثر فأكثر باعتباره سرداً للحرب والتلقين الإسلامي.

لا تزال أفكار المقاومة والعداء تجاه إسرائيل متجذّرة في الهوية الشيعية اللبنانية. ومع ذلك، فإن مشاعر الاستياء المتنامية حيال الحرب وجهود «حزب الله» لمواصلة عسكرة الطائفة الشيعية أثبتت أنها أقوى. واليوم، أصبحت حقيقة الهوية ذات الطابع العسكري والمتعطشة إلى الحرب موضعاً للتحدي بسبب رغبة أفراد المجتمع في تحسين مستويات المعيشة، والاستقرار المالي، والأمن. ومن هذا المنطلق، فإن الهوية الوطنية – والرغبة الشديدة في الانتماء إلى الشعب اللبناني ككل – أصبحت أكثر أهمية من الهويات الطائفية التي لطالما اعتُبرت مهيمنة على السياسة اللبنانية.

لقد حدثت هذه التحولات على امتداد سنوات عدة، ولكنها غالباً ما تكون معقدة جداً وتدريجية وبطيئة. فهي تبرز وتضمحل حسب الظروف السياسية والاقتصادية. وعلى الرغم من أن مسار التغيير ثابت، فإنه ليس من السهل على الشيعة ككل أن يعبّروا عن آرائهم خلال عملية لم تكتمل أو تتحقق بعد.

تفكك المجتمع الشيعي

اليوم، أكثر من أي وقت مضى في تاريخ لبنان الحديث، بات من الواضح أنّه لا وجود لمجتمع شيعي متماسك وموحّد. في الواقع، فإن العناصر المكوّنة للمجتمع تمر بموجات متعاقبة من التحولات في الهوية والصراعات الداخلية التي تمنح المجتمع طبقات متعددة من الهوية، وكثيراً ما تتداخل ضمن الفرد الواحد، ما يجعل من تصنيف هذا المجتمع مسألة معقدة.

والأمر الواضح هنا هو أن المشهد الذي يعبّر فيه الأفراد الشيعة عن استيائهم واختلافهم مع «حزب الله»، إما بالانضمام إلى الاحتجاجات في لبنان، أو عن طريق نشر تسجيلات ضد «حزب الله» عبر تطبيق الواتساب، أو حتى من خلال سرقة لحظات سريعة على شاشات التلفزيون للمساءلة، هو مشهد أصبح مألوفاً. وعلاوة على ذلك، فإن هذه الأحداث تبيّن واقعاً مخفياً وأكثر عمقاً تمكّن من التسلل من خلال تصدّعات طبقات الهوية نفسها التي تم حجبها في الماضي.

فضلاً عن ذلك، فإن لحظات الاحتجاج الناشئة هذه تُعقّد الواجهة الداعمة لحزب الله حتى الآن التي يظهرها الشيعة للخارج. وفي استطلاع حديث نشره منتدى فكرة، يظهر أنه في أوساط السكان الشيعة في لبنان اليوم، تقول نسبة 75٪ من المستجيبين إن موقفها لا يزال «إيجابياً للغاية» تجاه «حزب الله»،  أي إنها في تراجع بسيط عن نسبة 83٪ المسجلة أواخر عام 2017 و77٪ أواخر 2018.

وعلى الرغم من أن الأرقام لا تكذب، فإنها تستطيع أن تحجب الحقائق المتغيّرة على الأرض التي يصعب تحديدها في بيانات الاقتراع. فتتطلب فهم طبقات الهوية الشيعية أكثر من مجرد توجيه أسئلة مباشرة من قِبَل أطراف خارجية حول رأي المستجيبين في «حزب الله» وإيران. فإن تحديد المواقف الحقيقية للشيعة ينطوي على فهم هذه الطبقات والنظر في قضايا أبعد من «حزب الله» وإيران، مثل الحرب والسلام في لبنان، وحلفاء «حزب الله» في الداخل، وأهمية المحور الشيعي في النجف في العراق – حيث يمثل آية الله السيستاني تحدياً ملحوظاً لنموذج إيران للمجتمع الشيعي المتمثّل بولاية الفقيه.

كما يتطلب كشف ما تمثّله هذه المؤسسات بالنسبة إلى شيعة لبنان. فـ «حزب الله» قد يعني مقاومةً للبعض، وحمايةً للبعض الآخر. وقد تعني إيران الحماية للبعض، في حين أنها قد تعني دعماً مالياً للآخرين. ولا يزال عدد كبير من الشيعة ينظرون إلى «حزب الله» باعتباره شخصية أبوية ويشعرون بالتزام أو واجب في حماية الجماعة من اللامنتمين إلى المجتمع. ولكن هذا لا يعني أن «حزب الله» هو الشخصية الأبوية التي يتطلع إليها الشيعة داخلياً.

وفي ضوء هذه العوامل، فإن محاولة تصنيف هذه الجماعة غالباً ما تمنعنا من القراءة ما بين السطور. والأهم من ذلك أن هذا التصنيف قد يخدم «حزب الله» -وغيره من الزعماء الطائفيين – الذين يفضلون إخفاء الفوارق الدقيقة وطبقات الهوية والحقيقة التي تكمن في ما بينها لصالح كيان موحّد – فالسرد الرئيسي لـ«حزب الله» عن نفسه هو أنه يمثل أغلبية الشيعة في لبنان، على الرغم من أنه يدرك جيداً أن هذا الادعاء غير دقيق. وإلاّ، فإنه ما كان ليقمع المدن الشيعية خلال الاحتجاجات التي امتدت طيلة الشهرين الماضيين بمثل هذا العنف.

 طبقات الشخصية الشيعية

من حركة «أمل» التي أسسها موسى الصدر إلى سيطرة «منظمة التحرير الفلسطينية» على جنوب لبنان حتى عام 1982، ومروراً بالحرب الأهلية والحركات اليسارية التي اعتمدت على الشيعة في حروبها، ووصولاً مؤخراً إلى الهيمنة الإيرانية على الهوية الشيعية، أصبح لدى الكثير من الشيعة هويات وطبقات متعددة رداً على هذه القوى المختلفة. فقد يكون الشيعي مؤيداً لفلسطين ومناهضاً لها، وموالياً للمقاومة ومعادياً لها، وموالياً لفكرة لبنان ككيان مستقل ومناهضاً لها، وكل ذلك في آنٍ واحد. وعلى الرغم من أنّ هذه الاختلافات المخفية آخذة في الظهور الآن، فإنها قائمة منذ فترة طويلة.

وينطبق ذلك أيضاً على أفراد المجتمع المؤيدين لـ «حزب الله». فقد وصف كل مناصر أو مقاتل من «حزب الله» تحدثتُ معه التنقل عبر هذه الهويات. فهم سئموا من الحروب والأيديولوجيات، ولكنهم راسخون في هوية تمجّد انتصارات الماضي. وهم أيضاً في صراع بين أمرين، فكرة تحرير يسارية قديمة -تستند إلى حركة المقاومة الوطنية التي سبقت «حزب الله»- ومقاومة أيديولوجية فرضها «حزب الله» من خلال الاستحواذ الثقافي الدقيق والخدمات التي يقدمها إلى مجتمع عانى من الفساد لعقود من الزمان.

قد تحظى فلسطين بتأييد الشيعة -كقضية – ولكنهم قد ينظرون أيضاً إلى اللاجئين الفلسطينيين في لبنان كعبء أو كمجتمع أقل شأناً من حيث الحقوق والحريات. فقد يرغب الشيعة في عودة «حزب الله» إلى مهمته الأصلية ألا وهي المقاومة، وقد ينتقدون «حزب الله» لتخليه عنها، إلا أنهم في الوقت نفسه قد يخشون المقاومة، لأن المقاومة تعني حرباً أخرى. وقد يرغب الشيعة أيضاً في مكافحة الظلم مع الإقرار بأن حلفاء «حزب الله» هم أكثر الشخصيات السياسية فساداً في لبنان.

يشعر الكثير من الشيعة بالإحباط إزاء حروب «حزب الله» في المنطقة وعزله للمجتمع، فضلاً عن فساده وإخفاقاته المتزايدة. إلا أنهم يخشون أيضاً أن يفقدوا شخصية الأب التي يمثلها «حزب الله» وأن يتعرضوا للتمييز الطائفي والمزيد من العزلة. فلا يؤمن الشيعة كلهم بأيديولوجية ولاية الفقيه.

وفي الواقع، أصبح كثيرون -معظمهم ينحدر من الأحزاب اليسارية والتقدمية- من أنصار «حزب الله» فقط بسبب تبنّي «حزب الله» لسردية المقاومة وليس نتيجة أي شكل من أشكال النداءات القائمة على الدين والأيديولوجيا.

 المخاوف والمعضلات

تعتبر المحظورات التي تحولُ دون التعبير العلني عن هذه الشكوك قوية، ولكنّ الخوف أقوى. فكيف يمكن للمرء أن يعبّر بحرية أو وضوح عن أفكاره ورغباته داخل المجتمع الشيعي -حتى من دون الكشف عن هويته- عندما تطرق مخابرات «حزب الله» أبواب المتظاهرين الشيعة كل يوم في الأسابيع القليلة الماضية للاستفسار عن أماكن تواجدهم اليومية والتحقق من هواتفهم المحمولة الشخصية؟ ويعلم الشيعة أنه إذا صادف وجود أحدهم أو إحداهن في إحدى ساحات الاحتجاج، فستبدأ التحقيقات ولن تنتهي أبداً. هذا وتتعرض أسر بأكملها للمضايقة، وقد تم القبض على الكثير منهم.

وخلافاً للشيعة في العراق، الذين يتمتعون بمؤسسة دينية داخلية تدعم الاحتجاجات في البلاد ضمناً، لا يملك شيعة لبنان أي نجف يلجأون إليه. ولن يجدوا أي مكان يلوذون به في حال فشلت الاحتجاجات وعادت كل طائفة إلى زعيمها. وهذا من شأنه أن يضع شيعة لبنان أمام معضلة حقيقية: فكثيرون منهم عالقون بين رغبتهم في أن يصبحوا مواطنين لبنانيين وبين خوفهم من أن يصبحوا من دون غطاء، إذا ما ابتعدوا عن النموذج الطائفي التقليدي.

ولعل الشيعة الذين يعيشون في خوف أو إذلال لا يدركون احتياجاتهم وتطلعاتهم. وقد يعبّرون عن معضلاتهم بطرق قد يسيء الآخرون قراءتها أو يتغافلون عنها. لذا، ما يهم حقاً هو ليس رأيهم بإيران أو «حزب الله». فما يهم هو السياق: كيف ومتى ينزلون إلى الشوارع، وما هو العلم الذي يختارون رفعه، والأهم من ذلك إذا ما تمكنوا من تحدي قواعد «حزب الله» وخطوطه الحمراء الثقافية والاجتماعية، وليس السياسية.

ومن المهم الإقرار بأنّ الناس رقصوا في النبطية، وأن النسوة خلعن الحجاب في وسط الميدان في بعلبك. فلا عجب في أن يشعر «حزب الله» بالتهديد الكافي جراء هذه الأفعال لكي يتخذ إجراءات قمعية بحق المحتجين الشيعة. ففي لبنان، لطالما كان الجانب الثقافي والمجتمعي يؤدي إلى الطريق السياسي، ولا سيّما في المجتمع الشيعي. ولهذا السبب شعر «حزب الله» بالتهديد، ولهذا السبب فإن عصيان المحتجين الشيعة مهم.

وفي ضوء كل هذه العوامل، لربّما يكون من غير العادل أن نسأل من هو الشيعي في لبنان اليوم؟ ولكن هذا السؤال ذاته، بكل ما يحمل في طياته من تحيزات وتعقيدات، أضحى الآن أكثر ضرورة من أي وقت مضى. ويجب أن تتناول إجابات هذا السؤال كل الهويات والمخاوف والحقائق غير المعلنة الكامنة خلف ما هو سائد وظاهر في أوساط المجتمع الشيعي اللبناني.

  • صحفية وباحثة لبنانية
  • مقالات الرأي لا تعبر عن شبكة الأمة برس العربية الأمريكية الإخبارية ولا على القائمين عليها.


مقالات أخرى للكاتب

لا توجد مقالات أخرى للكاتب





كاريكاتير

إستطلاعات الرأي