الصندوق!
2021-02-11
محمد الرميحي
محمد الرميحي

في فضائنا العربي، التجارب قليلة في اعتماد الصندوق نسبياً من اجل انتخاب مجالس تشريعية أو أشخاص تنفيذيين لإدارة السلطة في المجتمع والقيام بالتشريع والحكم، وقد حلمت النخب العربية الليبرالية أن هذا الطريق رغم صعوبته هو الأفضل من أجل تحقيق التقدم والانضمام للأمم الأخرى في مسيرة البشرية، لذلك فإن بناء مؤسسات سياسية حديثة قد تقود الى النقلة النوعية المراد تحقيقها، وردد كثير منا أن "الديموقراطية" كما تعارف عليها البشر هي أفضل أسوأ أنظمة الحكم، وأنها الطريق الأمثل في الدولة الحديثة لاستيعاب روح القبلية والقرابة والطائفية، كل ذلك كان استعارات لتجارب أخرى وأفكار أخرى، ليست لها علاقة بواقع البنى الاجتماعية العربية.

اليوم نجد أن من يمارس "الذهاب الى الصندوق" في بلداننا العربية هم العدد الأقل من البلدان، ومع ذلك هي ممارسة نصوص وليست لها علاقة بالفكرة الأعمق لنظام مفروض قائم على التبادل السلمي للسلطة من خلال رغبة الناس العاديين في تقرير طريقة حكمهم. صُرف حبر كثير من قبل مفكرين وكتاب عرب كانوا يحلمون بالوصول الى ذلك المرفأ في يوم من الأيام، بناء مؤسسات ديموقراطية حديثة قائمة على المواطنة، ولكن ذلك لم يحدث ولا اعتقد انه قريباً سوف يحدث. السبب المباشر، غياب الدولة الوطنية، فالفئات الاجتماعية إما من دون الدولة "طائفة او قبيلة" أو فوق الدولة "قومية أو أممية" فلم تتبلور تلك الدولة الوطنية الجامعة.

الممارسة أظهرت أن هناك في فضائنا العربي شيئاً من الاختيار، وليس الانتخاب، في قاع ما سميناه (الديموقراطية)، ولا يظهر الفرق في المفهوم العربي بين الاختيار والانتخاب، إلا إذا قاربناه بالإنكليزية فهو الفرق بين selection و election، ونحن في معظم صناديقنا التي هي أصلاً قليلة نمارس الأولى وليس الثانية في الأنظمة شبه التمثيلية التي حولنا، فيقرر لنا مسبقاً من ننتخب من الطائفة أو القبلية والجماعة المحلية، ولا نترك لانتخاب من نرى هو الأفضل بصرف النظر عن انتمائه الاجتماعي كما تقرر فلسفة الديموقراطية.

قد تكون لدينا دساتير حديثة وقد نطور هذه الدساتير كأفضل ما يمكن كتابته من النصوص، الا أن الممارسة على الأرض تتدنى الى ما يقارب الاستبداد. مثال واضح أمامنا هو المسار التونسي، فقد حصل التونسيون على نصوص دستورية متقدمة فيها كل الضمانات إلا ان الممارسة انتجت شقاقاً وتعطيلاً للمؤسسات وغلبة الشخصانية، وكانت النتيجة أن البلاد اكثر فقراً وعوزاً وفوضى مما كانت عليه. الثانية لبنان، فليس هناك من يستطيع أن يسوّق التجربة اللبنانية رغم وجود الصناديق، فقد أصبحت عاجزة حتى عن إنقاذ نفسها من القاع الذي وصلت اليه البلاد والعباد، فلم يعد للدولة مكان يذكر غير الشكل الخارجي، وهناك أمثلة أخرى تتراوح بين المثال اللبناني والمثال التونسي مع فارق في الشكل لا الموضوع.

هنا يصل التساؤل الى المكان المستحق، ما السبب في كل ذلك؟ السبب مركب... إنها الثقافة السياسية النابعة من المجتمع والتي تأصلت لقرون طويلة وزادها عمقاً وتجذراً ما أحاط بالدول العربية في القرن العشرين من ظروف منها الاستعمار الغربي وإنشاء دولة إسرائيل وردود الفعل على ذلك، ومن ثم التطور الاقتصادي شبه المشوه، ولكن كل ذلك كان عوامل مساعدة، فالاضطراب في شكل الحكم الحديث كان سوف يظهر حتى بعدم وجود تلك العوامل ولكن ربما بصورة أخرى.

لعل العناصر التي يمكن رصدها كسبب لهذا الاضطراب الثقافي في التطبيق السياسي العربي وبعده عن مخرجات الصناديق كما ينبغي أن تكون، هو عامل المزايدة، إما باتجاه ما قبل الدولة او باتجاه ما فوق الدولة، فلو تتبعنا تأثير هذا العامل وكيف أنه أحدث كل الفساد الذي نراه سوف نتفاجأ بمدى عمق تأثيره في تعطيل الممارسة المتوقعة. المزايدة تأتي من أكثر من مصدر، الأول ديني "نحن أكثر تديّناً منكم" ونرى في فهمنا لتفسير الدين وعلاقته بالمجتمع هو الصحيح من أجل إقامة دولة فوق وطنية، وعلى الجميع اذاً السمع والطاعة لمن يتولى أمر الجماعة، او هي الأممية أو القومية "أنا سوف أحرر لكم فلسطين" وعليه، فعليكم أن تتبعوني وتعلقوا عقولكم حتى لو كانت إسرائيل هي البلد الأكثر قوة وتسليحاً وقدرة على الاستيعاب والرد، كما حصل مراراً وتكراراً منذ أكثر من نصف قرن. أما الثانية فهي المزايدة باتجاه ما قبل الدولة، "أنا أكثر من يدافع عنكم ويحصل على حقوقكم – الطائفية او القبلية" وعليكم أن تتبعوني لأن الأشرار الآخرين في الوطن يريدون ويعملون على إنقاص حقوقكم وإنكارها.

وهكذا فإن المزايدة صفة من صفات تعطيل كلي لأي ديموقراطية بالمعنى المتعارف عليه إنسانياً. إلى جانب المزايدة هناك علّة أخرى هي عدم التسامح، وهي نابعة من الأولى وتابعة لها وهي متعارضة تماماً مع روح الديموقراطية، بمعنى أن الآخر مخطئ على طول الخط ونحن على حق على طول الخط وتلك مرتبة في شكل حديدي لا تتيح المراجعة أو المرونة أو تسمح لرأي خارج الجماعة، ومن يخرج عن الخط المرسوم يعرض نفسه لرياح النبذ من داخل الجماعة وعدم قبوله خارجها، لذلك فإن الزعيم مصان وأيضاً دائم وقد يورث سلطانه لأبنائه او أقربائه.

أمام هذه الحلقة المحكمة من المزايدة ونبذ الآخر وعدم التسامح والتي هي نتاج لفشل بناء الدولة الوطنية الحقيقية تقف المؤسسات السياسية العربية عاجزة عن تحقيق أية إصلاحات حديثة حتى بوجود شكلي للصندوق!

 

*المقال يعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا يعبر بالضرورة عن رأي الموقع



مقالات أخرى للكاتب

  • تونس وعسر الديمقراطية
  • الأوهام الثلاثة!
  • السودان وليبيا ليسا وحيدين!





  • كاريكاتير

    إستطلاعات الرأي