اليمين المتطرف في إسبانيا: هل سقط الاستثناء؟
2019-11-14
 صبحي حديدي
صبحي حديدي

يجمع مراقبو المشهد الداخلي الإسباني، السياسي والاجتماعي والثقافي، أنّ غياب تيارات اليمين المتطرف والعنصري والفاشي كان مصدر فخار للأمّة التي ذاقت من ويلات الفاشية، حتى سقوط دكتاتورية الجنرال فرانكو أواسط السبعينيات، ما كفاها وزاد وطفح؛ بحيث أنها اكتسبت مناعة خاصة، وما يشبه «التطعيم» الدائم الذي يحلّ الوقاية المسبقة محلّ علاج الداء. الفخار ذاك انقلب إلى قلق، أوّلاً، خلال الانتخابات التشريعية في نيسان (أبريل) الماضي حين تمكن الحزب اليميني المتطرف «فوكس»، أو «الصوت»، من تحقيق نسبة تزيد عن 10٪ و24 نائباً، فاحتلّ بذلك المرتبة الخامسة. ثمّ، في انتخابات الأحد الماضي، اضطرّ إسبانيون كثر إلى دفن الفخار القديم إياه، مرّة وإلى الأبد كما يلوح، حين حقق «فوكس» نسبة 15.09، وأوصل 52 من أعضائه إلى البرلمان، وتربع على المرتبة الثالثة بعد الحزبين الرئيسيين في البلاد، «الاشتراكي» و«الشعب».
جدير بالذكر أنّ عمر هذا الحزب لا يتجاوز ستّ سنوات، وزعيمه سانتياغو أباسكال كان عضواً في «الشعب» ثم استقال منه وابتدأ نشاط منظمته بحملة دونكيشوتة (فعلاً وليس مجازاً، لأنه امتطى فرساً) ودشّن مسيرة «فتح إسبانيا» مجدداً، وتحريرها من الكفرة الأغراب، والمسلمين خاصة بالطبع.

سجلّ حزبه الانتخابي بدأ من 0.23 في عام 2015، ثمّ 0.20 في السنة التالية، ليبدأ بعدها مسار الصعود الماراثوني حتى الوصول المظفر إلى البرلمان. المحطة الفارقة كانت كتالونيا والدعوات الانفصالية والاستفتاء على الاستقلال، الأمر الذي اشعل مشاعر الانتماء القومي لدى شرائح غير قليلة في صفوف اليمين التقليدي، سارعت إلى مغادرة «الشعب» والتحقت بـ«فوكس». النقلة التالية كانت ذهاب أباسكال أبعد في نفخ الذات القومية، وتضخيم الهوية «الهسبانية»، والاعتزاز بعناصرها المتمثلة في العَلَم والقرية القشتالية والديانة المسيحية.


لكنّ أباسكال أحسن الاستفادة من عامل آخر بدا استثنائياً، بدوره، على صعيد إسبانيا، إذْ كانت غالبية أحزاب اليمين الأوروبي ترفض التعاطي مع التيارات ذات الهوية الفاشية المعلنة؛ ثمّ أخذ التحريم ينحسر تدريجياً وتحت أقنعة عديدة، وبضغط من الموجات الشعبوية داخل هذه الأحزاب. ففي مستويات متعددة خارج نطاق الانتخابات التشريعية، بلدية أو مناطقية، دخل حزبا «الشعب» و«مواطنون» الكتالوني في تحالفات مباشرة مع «فوكس»، جرياً خلف مغانم مؤقتة وعابرة سرعان ما اتضح أنها قاتلة للحزبين معاً لأنها شجعت أعداداً من أعضائهما للانضمام إلى الحزب الصاعد.

من جانبها اقتصرت الأحزاب اليسارية والتقدمية على تصنيف «فوكس» في خانات كراهية الأجانب، ورفض حقوق المثليين، ومناهضة الإجهاض، وتعظيم مصارعة الثيران والصيد والعسكرة؛ وسوى ذلك من تصنيفات تتجاهل أنّ الحزب يرفع أيضاً سلسلة من الشعارات المطلبية، ذات الصلة بالمعيشة والعمل والخدمات والضرائب، وأنها أخذت تستقطب شرائح غير قليلة بدورها في أوساط العمال وناخبي اليسار إجمالاً.
وليست عابرة، كذلك، استفادة «فوكس» من سلسلة الفضائح المالية والأخلاقية التي عصفت بالطبقة السياسية الحاكمة، وخاصة في صفوف اليمين؛ على غرار فضيحة «غورتيل»، أو «وترغيت إسبانيا»، التي أطاحت بالعشرات من كبار المسؤولين والساسة ورجال الأعمال، وبلغت الذروة في اضطرار حكومة ماريانو راخوي إلى الاستقالة تحت ضغط حجب الثقة. العائلة الملكية لم تنج من الفضيحة أيضاً، كما في مثال الأميرة كريستينا شقيقة الملك وزوجها، حيث تمّ تصعيد الاتهام بالفساد إلى مستوى إفساد مجد إسبانيا التليد بالنظر إلى أنّ هذه العائلة هي المسؤولة الرسمية عن طيّ صفحة فرانكو.
ورغم أنّ أحزاب اليمين المتطرف ليست متطهرة من فضائح مماثلة هنا وهناك في أوروبا، إلا أنّ عدم وصول «فوكس» إلى السلطة على نحو مباشر يتيح الغرق في الفساد، والعمر القصير للحركة في المقام الأوّل، واقتصار حضورها السياسي على البلديات والمجلس النيابي، وفّر لها حصانة مؤقتة ضد الاتهام، وفرصة موازية لتنظيم الهجمات المضادة في هذه الملفات.
صعود «فوكس» جدير بوقفة تأمّل معمقة، ليس على صعيد إسبانيا وحدها، أو طرح السؤال حول نجاعة «التطعيم» ضدّ اليمين المتطرف، فحسب؛ بل كذلك في السياق الأعرض لصعود حركات سياسية مماثلة على امتداد أوروبا الراهنة، بأسرها، وما إذا كانت تتقدّم أو تتقهقر وفق نواظم اجتماعية وفكرية وثقافية متماثلة.

ويكتسب الأمر مغزى إضافياً في الشروط الراهنة من حياة الاتحاد الأوروبي، وتفاقم مشكلات البطالة والركود والمآزق الاقتصادية والانهيارات المصرفية، وصلة هذه كلّها بمسائل الهجرة والاندماج. وصعود «فوكس» مناسبة مواتية لمناقشة المآلات العاصفة التي تنتهي إليها، بين حين وآخر، خيارات الناخب الأوروبي إذْ يقصد صندوق الاقتراع وهو يتحسس محفظته أوّلاً؛ أو تستفيق في دواخله أحاسيس الانعزال، والرهاب، والعنصرية.
والمرء، هنا، يتذكّر أنّ حوليات التاريخ الأوروبي المعاصر تحفظ لشخص السياسي النمساوي يورغن هايدر ذلك الاختراق الانتخابي الصاعق الذي أنجزه، وهو على رأس حزب «الحرّية»، في خريف 1999؛ ممّا اضطرّ الحزب اليميني الأوّل في البلاد، «الشعب»، إلى تشكيل ائتلاف حكومي ضمّ حزب هايدر.

وكانت تلك الهزّة السياسية قد أستولدت السؤال الكبير الذي بدا أشبه بلطمة حادّة في وجه الاتحاد الأوروبي والفلسفة الديمقراطية الغربية عموماً: هل نَخضع لإرادة 27٪ من الناخبين في النمسا، قرّروا رفع حزب هايدر إلى المرتبة الثانية في سلّم الأحزاب والقوى السياسية؟ أم نُخضع هذه الإرادة ذاتها إلى اعتبارات أخرى، صحيحة أو خاطئة، عتيقة مستفيقة أو جديدة مستجدة، لكنها في كلّ حال تسير على نقيض تامّ مع القواعد التي يفرضها صندوق الاقتراع في انتخابات حرّة ونزيهة بنسبة 100٪؟
والحال أنّ الموقف الأوروبي استقرّ على خيار لاديمقراطي، وخارج على القانون في الواقع، يطالب بمقاطعة النمسا وعزلها دبلوماسياً إذا شارك حزب هايدر في ائتلاف حكومي. لم يكن في اتفاقيات الاتحاد أيّ نصّ قانوني يخوّل رؤساء دول وحكومات أوروبا الـ 14، آنذاك، حقّ التدخّل في أمر داخلي صرف يخصّ الدولة الـ 15، العضو في الاتحاد الأوروبي، ذات السيادة والاستقلال.

  صعود «فوكس» مناسبة مواتية لمناقشة المآلات العاصفة التي تنتهي إليها، بين حين وآخر، خيارات الناخب الأوروبي إذْ يقصد صندوق الاقتراع وهو يتحسس محفظته أوّلاً؛ أو تستفيق في دواخله أحاسيس الانعزال، والرهاب، والعنصرية

صحيح أنّ الكثير من المخاوف كانت شرعية إزاء صعود هايدر وحزب «الحرّية» في بلد مثل النمسا بصفة خاصة، سيّما إذا وُضعت تلك المخاوف في سياقات اجتماعية ـ سياسية ملموسة؛ لكنّ المنطقي، والشرعيّ أكثر، أنّ التخوّف من هايدر، أياً كانت عواقب صعوده، لا يطمس هذه الحقيقة البسيطة: الناخب النمساوي حرّ في ما اختار، والضغط على إرادته (خصوصاً بعد أن أعرب عنها بوضوح)، ليس تدخلاً في شؤون هذا الناخب فحسب؛ بل هو مسعى لقهر تلك الإرادة، وإجبارها على اتخاذ ما لا تريد. وأن تبلغ الديمقراطيات الغربية هذا المقدار من التناقض بين محتوى الشرائع وبين أشكال تطبيقها، كان تطوّراً كبير الدلالة، كشف وجود خلل تكويني في البنية ذاتها، قادر على تشويه الشكل مثل المحتوى.
ولقد برهنت السنوات اللاحقة أنّ هذا الخيار أحمق أوّلاً، وجدير باستيلاد نتائج مضادة ثانياً، بدليل الصعود المضطرد لحركات وتيارات ومنظمات وأحزاب يمينية متطرفة، بعضها لم يعد يجد حرجاً في التغني الصريح بالفاشية؛ كما في هنغاريا وإيطاليا وفرنسا والنمسا ذاتها، قبيل فشل «التطعيم» مؤخراً في إسبانيا.

المحرّمات سقطت تباعاً، في قلب الديمقراطيات العريقة ذاتها، على شاكلة الرئيس الفرنسي الأسبق نيكولا ساركوزي: استقبل السياسيّ اليميني المتطرّف جان ـ ماري لوبين في قصر الإليزيه، للمرّة الأولى في تاريخ جمهورية فرنسا الخامسة؛ ثمّ وضع دكتاتوراً يحكم مزرعة استبداد وراثية، مثل بشار الأسد، على منصّة الاحتفال بالثورة الفرنسية!
هناك ابتدأ سقوط الاستثناء، آنذاك؛ وليس هنا، الآن.

كاتب وباحث سوري يقيم في باريس*

 



مقالات أخرى للكاتب

  • نيويورك تايمز: خيانات ما تبقى لهم من ضمائر
  • هويات بلينكن: قاب قوسين من الصهيونية… أم أدنى؟
  • من فييتنام وتشيلي إلى العراق وفلسطين: كيسنجر في مزابل التاريخ





  • كاريكاتير

    إستطلاعات الرأي