لبنان يرفع شعار المواطنة خارج أحزابه وطوائفه
2019-10-24
 مريم مشتاوي
مريم مشتاوي

قبل أيام من انطلاق الحراك في لبنان، كان لدي إحساس باللا جدوى.. زعامات بالوراثة، طوائف برسم الاستثمار، طائفيون يحتكرون الشرف، إعلام يتراجع، زبالة في كل مكان.
اليوم تبدل الأمر، أشعر بالانتماء إلى شعب يثور على الطوائف، ويفضح الفاسدين، ويحطم زعامات الوهم.
ما أجمل اللبنانيين في مختلف أعمارهم في الشوارع وهم يرددونها بوضوح وبشجاعة كبيرة: “كلن يعني كلن”.
تركت بيروت بعد تخرجي مباشرة من الجامعة، مثلي مثل كل الشباب الذين يسعون إلى مستقبل أفضل. أردت أن أبني عائلة بعيداً عن الحروب، بكل أنواعها العسكرية منها والاقتصادية والسياسية.
ولكن بقيت في ذاكرتي، رغم قسوة الحرب مشاهد لا يمكن أن تمحى أبداً.
ذكرتني مظاهرات الشباب بأيام عشتها في صغري. تذكرت قدرتي وأصدقائي الصغار على التأقلم مع الموت والتعود عليه ومصادقته.
حين كنت صغيرة استطعنا أن نحول الملجأ، الذي كنا نسرع إليه عندما يشتد القصف علينا في منطقة بعبدا اللبنانية إلى مكان أليف، وقد يكون في أوقات كثيرة مسليًّا. أذكر أننا كنا نتجمع فيه لنلعب “الورق”، وأحيانًا نغني ونضحك. وكانت النسوة يجلسن في شكل دائري لتقطيع البقدونس، فالتبولة كانت من أهم مأكولات الملجأ. وأحيانًا كنا نبدأ بالرقص والدبكة والتصفيق والدوران. والصواريخ تلعلع فوقنا.
أتذكر جيدًا كيف كانت عمتي تلف لنا “سندويشات” موز وسكر، حين تخذلنا “المونة”. تلك الساندويشات ما كانت قط قصاصًا. كنا نحبها وتعودنا عليها أيضًا.
في الملجأ كانت دائمًا هناك عجائب نتبادل الأحاديث عنها، وكأن موسم العجائب يطل علينا فقط أيام الموت.
اليوم بعد مرور سنوات طويلة وتتابع حروب كثيرة هنا وهناك. حروب متنوعة من البراميل والطيران وحروب اقتصادية وسياسية متمددة لسنوات وسنوات. أدركت الآن أن سكان الملجأ الصغار هم العجيبة الحقيقية. إن حبنا للحياة هو القوة الخارقة، التي ندفع بها الصخرة عن باب القبر. حبنا للحياة هو القيامة.
هكذا بدا المشهد اللبناني، الذي تناقلته كل الفضائيات وانتشرت عنه الفيديوهات بكثافة على مواقع التواصل الاجتماعي كسيل هادر متواصل.
اليوم في الساحات والطرقات شبان وشابات وكهول، كلهم يرقصون ويدبكون ويغنون بأعلى أصواتهم لأجل التغيير.. وأيضاً كثيرون منهم يشتمون. يصرخون بوجوه من نهبوهم وسرقوا أحلامهم ودمروا البلد بطائفياتهم المقيتة. رموز سياسية هي هي لا تتغير. وإن تغيرت لا تخرج من العائلة نفسها. يسرع الابن ليعتلي كرسي النهب وكأنه إرث أبيه.
شتائم كثيرة حلقت عبر القارات من المتظاهرين اللبنانيين في العالم أجمع كلها موجهة إلى طاقم سياسي عفن. تغرب معظم اللبنانيين بسببه مبتعدين عن أهاليهم وأرضهم وأحبائهم.
كانت تكفي صرخة أم من قلب التظاهرة تبكي بحرقة قائلة:
“بدي احكي باسم أمهات كل هالأولاد. أنا أم عمري 58 سنة ربيت ولادي بدموع عينيّ. أنا رح يحرموني ولادي فالين اتنيناتهم. حرموا كل هالأولاد مستقبلهم. الله يحرمهم نوم عينيهم. ولادي تاركيني وفالين”!
لم يغير بركان الألم المشتعل من طبيعة اللبنانيين في مواجهة الأحداث المتسارعة برقي يحسب لهم.
هكذا صنع أبطال من لبنان مشهداً حضارياً، رغم محاولات الطابور الخامس توسيخه. لقد تغلب عليه شباب وشابات لبنان بذكائهم، واتفقوا أن ينبطحوا جميعهم أرضاً إن بدأ أحد الأشخاص بالتخريب كي تصل الرسالة إلى العالم أجمع بأنها مظاهرات سلمية.
تناقل رواد التواصل الاجتماعي فيديوهات لهم وهم ينظفون الشوارع من الزجاج، وفتاة توزع الورود على الجيش اللبناني وآخرون يوزعون الماء والحلوى وغيرهم يوزعون الطعام.
كما استقبل المتظاهرون موكب الجيش بالورود والزغاريد وبحب كبير عبروا عنه بدموعهم وابتساماتهم.
ماذا نقول عن تلك الحاجة وهي بالكاد تقف بسبب السنوات التي أرهقتها. تلك السيدة أبكت الملايين وهي تنظر إلى الجيش قائلة: “بدنا كل شي يتحرر. بدكن تقوصونا قوصونا. إذا كنتم فعلاً لبنانية ووطنيين قوصونا بدنا نفوت لجوا. جوعوكم. مال، ما عم يعطوكم. ليش ساكتين ما عم أفهم؟!
إن شاء الله فكرك رح يعطوك مصاري، سعد الحريري، أو نصر الله، أو باسيل، أو نبيه بري ومرته. أوعوا خلص. ولادنا كلن صاروا برا. منشان مين.
إنتوا يلي لازم تحكموا البلد بهالوقت”!
وتضيف وهو لسان حال اللبنانيين: “كلنا معكم. خايفين من نصرالله. خليه يقوصنا معليش. على القليلة من موت فداء أرضنا. روح شوف الفلسطينيين كيف شجرة زيتونة بموتوا كرمالها وبيدافعوا عنها. إذا ما عندك أرض ما عندك وطن”.
فصرخ الناس من حولها، وهي ترقص بعصاها: “الشعب يريد إسقاط النظام… الشعب يريد إسقاط النظام”، نظر إليها الجندي بعينين مغرورقتين بالدموع وقبلها على جبينها.
المشهد نفسه تكرر في مكان آخر، ولكن في سيناريو مختلف كان بطله رجل كبير في السن يحاور جندياً ممن يمنعون تقدم المظاهرات.
قال له العجوز:
وينك بدك تضربني؟
فرد عليه الجندي:
“كيف بدي اضربك أنت قد بيي”
فاحتد الرجل وتكاثرت شيبته بلحظة ألم:
“إيه أنا قد بيك بس هيدا عم يسرقك عيب عليه
عيب عليه… عيب عليه… عم بجوعك متل ما عم بجوعني”.
فما كان من الجندي إلا أن رفع عن وجهه القبعة البلاستيكية، ونظر طويلاً في عيني الرجل العجوز، ثم قال له: “أنا بأمرك”… اقترب منه العجوز بمحبة كبيرة وضم رأس الجندي الشاب بيديه المتجعدتين بفعل الوجع والتعب والإحباط المتراكم عبر سنوات طويلة من حكم زمرة من الأوغاد شلوا البلد وأقعدوه على الحضيض.
ضمه بقوة وقبله بحب على وجنتيه.
لا يمكن لأحد أن يشاهد هذه الفيديوهات، التي تطل علينا من كل حدب وصوب من دون أن يشعر بمزيج من الفخر والألم والحب العارم لجيش لبناني أصيل.
هذا الجيش الذي احتد اليوم مع قوى الأمن ليحمي الشبان والشابات في التظاهرات.
ليالي بيروت مضيئة منذ أيام. غناء ورقص لأجل التغيير والليل شاهد على سلميتها. انضم للمشهد الوطني فنانون وممثلون وإعلاميون وموسيقيون.
انكسر حاجز الخوف وطفح الكيل. لبنان ينتفض للمرة الأولى. انتفاضة حقيقية لا مثيل لها في وطنيتها.
شباب وشابات الوطن يندهون من وسط المظاهرات، بأصواتهم الرنانة، لربيع عربي جديد مرددين:
حيوا سوريا حيينا
حيوا السودان حيينا
حيوا العراق حيينا
حيوا اليمن حيينا
حيوا ليبيا حيينا
حيوا مصر حيينا
حيوا الجزائر حيينا
حيوا المغرب حيينا
حيوا تونس حيينا
حيوا السعودية حيينا
حيوا فلسطين حيينا
حيوا البحرين حيينا
كلنا للوطن… كلنا نحمل علماً واحداً يوحدنا جميعاً…
ها هو لبناننا يشرق من جديد، يفك عنه ذلك القيد القاسي المحكوم بالتوازن الطائفي والحزبي الدقيق.
لقد انتهت أيام (8 و 14 آذار). اليوم نقف باحترام أمام جيل جديد يطالب بتغيير حقيقي ينسف كل المعادلات الطائفية والمحاصصة الحزبية لتعود دولة المواطنة. جيل من الأمل… عاش لبنان حراً مستقلاً! وعاش اللبنانيون بكرامة وعزة!


كاتبة لبنانية*



مقالات أخرى للكاتب

  • في حضرة الزلزال: قصص سورية وتركية لن ترويها هوليوود؟
  • في العالم العربي: لا عيد لضحايا الحروب وفلسطين «حالة عشق» في وجدان المصريين
  • انتفاضة لبنان: ثورة الموجوعين والجياع وليست ثورة “الحسناوات: كل الحلوين (ثورجية)”





  • كاريكاتير

    إستطلاعات الرأي