الفلسفة في بيت من زجاج

2021-03-17

القاهرة - مدحت صفوت

منذ بداية المشروع الفلسفي العربي، مع الدولة العباسية، وقدره أن يكون مشروعاً سلطوياً، ترعى السياسةُ فيه الفلاسفةَ، ما يصب في ازدهار التفلسف ورواجه، وللسبب نفسه، يخفت المشروع ويكاد يموت حين ترفع السلطة يدها عنه، مما جعل الفكر الفلسفي في التصور العربي العام «أفكاراً غير واقعية».

يبدو أن الكثيرين من حاملي مشعل الفلسفة العربية في العصر الحديث، وليسوا جميعهم، ورثوا بعض جوانب أسلافهم، بخاصة في التعالي عمّا يسمى ب«الجمهور»، وأفكاره ورؤيته ومن ثمّ ذائقته الفنية والأدبية، وغالباً ما يوصم ب«الجهل» و«الغوغائية»، وتتهم ممارساته بالسعي نحو هدم المستقر والراسخ والموروث.

في الوقت الذي قد لا نشهد أي حضور للفكر الفلسفي في الإعلام العربي، سواء الإعلام المنظم كالقنوات والصحف، أو غير المنظم كمواقع التواصل، يمكن رصد عدد من البرامج في التلفزيونات الغربية، ليست بالكثيرة أيضاً، أشهرها البرنامج الذي يقدمه الفيلسوف الألماني بيتر سلوترديك منذ العام 2002، على قناة «ZDF» الألمانية، بعنوان «في بيت من زجاج.. اللجنة الرباعية الفلسفية» والمخصص لمناقشة القضايا الفلسفية المعاصرة بصورة معمقة، فضلاً عن تدريسه للفلسفة ونظرية الميديا في جامعة «كارلسروه للفنون والتصميم».

ومن خلال برنامجه يحاول سلوترديك أن يوازن بين الأكاديمية الصارمة ونوع من التعبيرات المناهضة للمعايير الأكاديمية التي تجلت في اهتمامه ومتابعته لأفكار المتصوف الهندي تشاندرا موهان جاين «أوشو» Osho الذي كان أستاذه أواخر السبعينات، فضلًا عن رفضه لقب المفكر المثير للجدل الذي أطلقه عليه منتقدوه، وهم كُثر، ويفضل بدلاً منه لقب الحاسم أو القطعي، حسبما تذكر الباحثة الفلسطينية أماني أبو رحمة في كتابها «أفق يتباعد.. من الحداثة إلى بعد ما بعد الحداثة».

شهرة واسعة

اكتسب سلوترديك شهرة واسعة منذ كتابه «نقد العقل الساخر» الذي نال الكثير من الاستحسان وقاعدة عريضة من القراء في الولايات المتحدة بخاصة بعد ترجمته إلى الإنجليزية أواخر الثمانينات من القرن الماضي، وقدم نمطًا متعدد الأوجه للكتابة تشترك فيه الفلسفة والتاريخ والأنثروبولوجيا والخيال والشعر ونظرية الأدب واللغة العامية. ويشكل هذا المرجع الاستطرادي الفريد نظرة كلية جديدة لدور الفلسفة التي لا تزال تميز عمله، كما حقق المُؤَلف أكبر مبيعات للكتب الفلسفية باللغة الألمانية منذ الحرب العالمية الثانية.

الشهرة التي يتمتع بها سلوترديك ليست فقط لأسلوبه في تناول القضايا المعرفية، إنما للمواضيع ذاتها التي يتناولها، وهي الجوانب التي تبدو «تافهة» من الحياة، الأمر غير المنفصل عن عالم التواصل الاجتماعي وفضاءات الإنترنت المفتوحة، لتظل القضايا الموسومة بالمهمة والعظيمة عنده لا شيء، ف«الموضوعات العظيمة مراوغة وأنصاف حقيقية. تلك الشواهق الجميلة العقيمة المتعالية؛ الكون والنظرية والممارسة والموضوع والكائن والجسم والروح والمعنى والعدم، كلها لا شيء، إنها مجرد أسماء للشباب والغرباء وعلماء الاجتماع ورجال الدين».

احتكار تاريخي

مسألة «احتقار العوام» وموضوعاتهم وأدواتهم المعرفية، قديمة ولا تخص الفكر العربي وحده، وترجع إلى العصور القديمة ومنبتها احتكار المعرفة في طبقة معينة، سواء الكهنة في الحضارة المصرية القديمة أو الفلاسفة عند اليونان، ومن بعد فلاسفة العرب وأهل علم الكلام، الذين لم يروا حرجاً في أن يتصوروا أن عقول الجماهير تقع في مرتبة أدنى.

ومن المحتمل أن المفكرين العرب القدامى ورثوا هذا التصور عن الفلسفة الأفلاطونية التي أحاطت الفلسفة – نفسها - بألف سور، وجرى عزلها عن الفضاء العام انقلاباً على أستاذه سقراط الذي كان يمارس التفلسف، وظلت الفلسفة وفق هذا التصور حبيسة أهلها ودارسيها والمشتغلين بها، لنصبح أمام «كهنوت» جديد، فلسفي هذه المرة، ما يعني انتقال الكهنوت من رجال الدين إلى الفلاسفة، في ما تقضي الممارسة الديمقراطية نشر المعارف وإتاحة تداول المعلومات والأفكار والتصورات والرؤى.

وفي كتاب «فصل المقال» مثلاً قسّم ابن رشد الناسَ إلى أصناف ثلاثة، هم: الجمهور وأهل الجدل وأهل البرهان، واعتبر أن لكل فئة طرائق معرفة، وجاء الترتيب رأسياً فاحتل البرهانيون قمته في القدرة على امتلاك المعرفة والفهم «الصحيح» للظواهر وللنصوص وللشريعة، منبهاً على البرهانيين من خطورة إفشاء تأويلاتهم البرهانية للجمهور أو الجدليين، ومشدداً على ضرورة بقاء هذه المعرفة في نطاق الفلاسفة.

ويتقاطع التصور السابق مع تصور الإمام أبي حامد الغزالي، الذي يبدو خصماً لابن رشد، فالأول قسم الناسَ إلى صنفين: عوام وخواص، وخصّ العوام بالمعرفة الهامشية وعدم الدراية بما يرونه من أمور معقدة، واقتصرت المعرفة عنده على طائفة «العرفانيين»، وهي سمة تختزل المعرفة في طائفة بعينها وتمنعها عن بقية الناس، وأيضاً نقطة تلاقي بين أبي الوليد وأبي حامد.

ويرتب الغزالي السائلين على ثلاث رتب: مسترشد يسأل عن الحكم والدليل، ومستفتٍ يسأل عن الحكم، ومناظر. وهي رؤية تبدو متجانسة ومنطقية، وتحترم ما يعرف في ما بعد في العلوم الإنسانية بالتخصص، لكن ومع الفحص الدقيق والمتأني لرؤية ابن رشد تتكشف البنى الاحتكارية للفلسفة المستترة وراء التقسيم.

وتمكيناً للاحتكارية يذهب ابن رشد إلى «تأثيم وتكفير» من يجتهد ويخطئ من غير أهل البرهان، سواء كان من الجمهور أو الجدليين، فأهل البرهان وحدهم من لهم حق الخطأ وحال ذلك لهم أجر الاجتهاد، في ما يرزح غيرهم تحت مسميين «إمّا آثم وإمّا كافر» بقول ابن رشد.

تجارب ذاتية

لا تنفصل مسألة احتقار الجمهور والموقف من التراث، فمنذ عقود، حاول الباحثون العرب المشتغلون بالفكر والفلسفة، والباحثون عن آليات الاستنارة الحديثة، أن ينتجوا قراءة فلسفية وفق رؤية عقلانية نقدية، وإعادة تحرير المُحدث طبق منطق علمي رصين، الأمر الذي لم يخلُ من إسقاطات إيديولوجية، بلغت عند بعضهم أن تصير هي الخيط الناظم للرؤية الكلية للتراث. وفي خضم الصراع ما بين الخضوع الإيديولوجي في قراءة التراث وإنتاج قراءة موضوعية، توزع جهد المفكرين العرب وتشتت في أحايين كثيرة، بين التنظير التقعيريّ والممارسة المشتبكة مع الواقع.

والاستثناء الذي أوردناه في مقدمة المقالة عن عدم تعالي بعض العاملين بمجال الدراسات الفلسفية العربية، تؤكده بعض الشواهد والتجارب لعدد من أساتذة الفلسفة الذين رأوا في منصات التواصل فرصة لطرح قضاياهم الفلسفية والمعرفية من خلال حساباتهم على هذه المنصات، والدخول في نقاشات مفتوحة مع «الجمهور العام»، استناداً إلى حق المعرفة وفضيلة الإنصات إلى الآخرين.

اللحظة الراهنة

والمتابع لحساب أستاذ الفلسفة بجامعة الإسكندرية أشرف منصور، على موقع «فيسبوك»، سيجد مئات المنشورات عن الموضوعات الفلسفية غير منبتة الصلة عن الواقع المعيش، والانطلاق من كتابات الفلاسفة كاسبينوزا وماكس فيبر وكارل ماركس وغيرهم، لفتح ما يخص اللحظة الراهنة والتنقيب في ظواهر واقعية وملموسة، فضلاً عن سلسلة من المحاضرات المرئية تحت عنوان «تراث التنوير في الشرق والغرب».

منصات التواصل عند منصور ليست أدوات نشر «مقالات» يلقي بها للجمهور المتعطش لرؤية فلسفية عن أحواله، بقدر ما هي أدوات محاورة ومحاجّة، الأمر الذي يجعل أستاذ الفلسفة لا يفوت تعليقاً إلا وناقشه أو سؤالاً وقد أجابه مهما بلغ من الكثرة، دون أن يكون الهدف إرضاء الجمهور، وإنما لإتاحة أعلى درجات الحرية في الفكر والرأي والتعبير.

غزو البلهاء

مع عصر منصات التواصل أو «زمن الإنترنت»، كانت هناك شكوى شبه مستمرة من خطر امتلاك «الجمهور» لأدوات التعبير والنقاش والجدال والمحاجّة، وتجلى اعتراض الإيطالي الشهير إمبرتو إيكو بوصفه أبرز الاحتجاجات الثقافية على «مكتسبات منصات التواصل» التي وصفها «بفضاء الحمقى»، ومعلقاً في حالة من الغضب بأن «أدوات هذه الوسائل تمنح حقّ الكلام لجيوش من الحمقى، ممن كانوا يتكلّمون في الحانات فقط، بعد تناول كأس من النبيذ، من دون أن يتسبّبوا بأيّ ضرر للمجتمع، وكان يتمّ إسكاتهم فوراً. أما الآن، فلهم الحقّ في الكلام، مثلهم مثل من يحمل جائزة نوبل. إنّه غزو البلهاء».







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي