بيوت استشفاء الأرواح

2021-03-08

العزل فرصة لبناء الإنسان

القاهرة- مدحت صفوت

عند التعامل مع القضايا الشخصية مثل القلق والاكتئاب، أو الحزن، قد يكون من الصعب أحيانًا فهم ما يحدث في عقلك وجسمك، خاصة إذا لم يكن لديك أي خبرة معرفية بكيفية تجاوز هذه المشاعر، وبالتالي تصبح الحلول غير التقليدية فرصاً سانحة، ومن بينها العلاج بالقراءة أو «Bibliotherapy».

من جهة ثانية، لا يمكن إنكار أن البشرية تعيش منذ قرابة العام، حالة من القلق والخوف والترقب، جراء انتشار فيروس كورونا، وكان من ضمن المقترحات أن يستثمر الفرد وقته في الحجر الصحي الذي فرضته أغلب دول العالم، على نحو ثقافي، واعتبار العزل فرصة لبناء الإنسان، ما يصب في النهاية في بناء المجتمع،  فهل كانت بالفعل القراءة وسيلة أساسية في تجاوز العام الماضي؟

مع بداية الجائحة، كان من المستحيل تجاهل العناوين شبه الثابتة التي تحتوي على أعداد محدثة من حالات الإصابة بالفيروس، إلى جانب الصور المشاركة على منصات التواصل الاجتماعي لتأثيرات الوباء في سكان الكرة الأرضية، ففكّر الناس على نحو جيد في الاستفادة القصوى من فترة العزل التي يمكن أن تكون تجربة مربكة، خاصة لأولئك الذين اعتادوا على قضاء ثلثي وقتهم خارج البيت.

والقراءة في فترات العزل الطويلة نسبياً، كانت وسيلة لقتل الوقت من جهة، ووسيلة للاستشفاء من جهة أخرى، أو على الأقل للتخلص من آثار الكآبة والقلق والتوتر، وما تعيشه البشرية، فضلاً عن تحسين جودة الحياة من خلال توفير المعلومات والدعم والتوجيه عبر الكتب والقصص والحكايات، الخيالية والواقعية.

قيمة جوهرية

الحديث عن القراءة وسيلة للعلاج ليس ضرباً من التمني أو تحميل الفعل القرائي فوق طاقته، بقدر ما نعتبر الكلام عن توجه الناس القرائي خلال فترة الإغلاق، فرصة للحديث عن توجه نفسي في علاج عدد من النزعات عبر استعمال الكتب، بخاصة الكتب الأدبية، وفي الوقت الذي سبب فيه فيروس كورونا ثقلاً اقتصادياً فقد أوضح القيمة الجوهرية للثقافة كتعبير عن الإنسانية التي يمكن أن تكون مفتاحاً للنهوض بالتنمية المستدامة.

ويشير العلاج بالقراءة أو «Bibliotherapy» عموماً، إلى استخدام الأدب لمساعدة الأشخاص على التعامل مع المشكلات العاطفية، أو المرض العقلي، أو التغييرات في حياتهم، أو لإنتاج تغيير فعال وتعزيز نمو الشخصية وتطورها، من خلال توفير الأدبيات ذات الصلة بأوضاعهم الشخصية واحتياجاتهم التنموية في الأوقات المناسبة، ويحاول ممارسو العلاج الكتابي مساعدة أولئك الناس من الأعمار جميعها، على فهم أنفسهم والتعامل مع أزمات الانفصال والطلاق وإساءة معاملة الأطفال، وغيرها.

ويعد مفهوم القراءة كوسيلة للمساعدة في تسهيل عملية الشفاء وتحقيق الأهداف العلاجية استراتيجية شائعة في عدد من طرائق العلاج النفسي والسلوكي، ومع ذلك فإن ما يفصل بين العلاج القرائي والنظريات الراسخة الأخرى للعلاج النفسي، هو نظرة المعالج ذاته، وإيمانه بالقراءة كوسيلة قادرة على المساعدة في تجاوز الأزمات.

ونظراً لأن العلاج بالكتب، يقال عنه أحياناً العلاج بالأدب أو بالشعر، يستخدم غالباً لدعم أشكال أخرى من العلاج، فهو مناسب لكل من المواقف الفردية والجماعية، وأصبح في الولايات المتحدة والمملكة المتحدة على السواء، من الشائع أن ترى معالجاً يستخدم القصص عند العمل مع «حالة» تعاني القلق، أو الاكتئاب، أو حالات التعافي من تعاطي المخدرات، أو مشكلات ما بعد انتهاء العلاقات الشخصية، فضلاً عن المخاوف الوجودية مثل العزلة، واللا معنى، والحرية والموت، انتهاء باضطرابات الجهاز الهضمي.

كيفية التعافي

إذا كان العلاج بالقراءة يبدو مناسباً، فقد تتساءل عن كيفية استخدام المعالج لهذه الأداة أثناء جلسة الاستشارة. هنا يكشف أستاذ في برنامج الإرشاد والخدمات الإنسانية بجامعة ويك فورست الأمريكية، سام جلادينج، أن العلاج بالكتب تفاعل ديناميكي ثلاثي الاتجاهات، هي: المعالج والفرد نفسه وقائمة الكتب المختارة والمقررة قراءتها.

وفي كتابه «أبجديات العلاج بالكتب لمرشدي المدارس»، يوضح جلادينج أن الفرضية الأساسية في هذا النهج هي أن متلقي الخدمة العلاجية «العملاء» يتعرفون إلى شخصيات أدبية مماثلة لأنفسهم، من أجل إطلاق العواطف واكتساب اتجاهات جديدة في الحياة، واستكشاف طرق أخرى للتفاعل، وقد يشعر القراء بالارتياح لأنهم ليسوا الوحيدين الذين يواجهون مشكلة معينة، ومن ثمّ يتعلمون على نحو غير مباشر كيفية حل مشاكلهم من خلال التفكير في كيفية حل الشخصيات في الأعمال الأدبية لمشكلاتهم.

ويشير جلادينج، إلى أنه من الأهمية بمكان أن يرتبط الكتاب أو القصة ارتباطاً مباشراً بصعوبة «العميل» حتى يتماثلوا مع البطل في الرواية أو القصة. بعد ذلك، يعود الاستشاري والعميل معاً للحديث عن الطريقة التي تعامل بها البطل مع مشاكله وإمكانية تطبيق الحل، أو الحلول في الكتاب، على موقف العميل.

ويوافقه أخصائي الزواج والأسرة الأمريكي تشاد بيرمان في ذلك، ويقول «عادة ما يستخدم المعالجون القراءة، بتخصيص كتب معينة للعملاء لقراءتها خارج الجلسة، وهي استراتيجية يمكن أن تساعد في تسهيل التعاطف والبصيرة والمحادثة والنمو الذاتي».

لكنّ عملية التفاعل القرائي نفسها تمر بحلقتين أساسيتين، أولاً التحديد والاختيار، وثانياً العرض والمتابعة، ويجب تحديد احتياجات الأفراد واختيار الكتب المناسبة التي تتناسب مع مشاكلهم الخاصة، الأمر الذي يتطلب مهارة وبصيرة، فمن المفترض أن تقدم الكتب معلومات صحيحة حول المشكلة مع عدم نقل شعور زائف بالأمل.

وشدد الباحثان في جامعة تكساس شارون فون وديبا سريدهار، على وجوب اختيار الكتب بعناية، وعلى نحو ممنهج واستراتيجي، حتى يتمكن العملاء من رؤية أوجه التشابه بينهم وشخصيات هذه الكتابات. وبمجرد أن يتمكن متلقو الخدمة من التعرف إلى الشخصية الرئيسية، يدخلون مرحلة المتابعة التي يشاركون خلالها ما اكتسبوه، ويعبرون عن التنفيس شفهياً في المناقشة، أو عبر وسيط كتابي، أو بالوسائل غير اللفظية مثل الفن، أو لعب الأدوار وغيرها.

ممارسة قديمة

تاريخ العلاج بالقراءة ليس حديثاً، فالممارسة ذاتها قديمة، ويمكن تلمّسها في كتابات المؤرخ اليوناني ديودور الصقلي، في سفره «مكتبة التاريخ»، إذ ذكر عبارة كتبت فوق مدخل الغرفة الملكية التي تخزن فيها الكتب  في عهد الملك المصري رمسيس الثاني، وتعتبر أقدم مكتبة، وهي «بيت استشفاء الروح».

والفيلسوف والطبيب الاستثنائي للإمبراطور الروماني ماركوس أوريليوس، احتفظ بمكتبة طبية في القرن الأول الميلادي، لم يستخدمها بنفسه فحسب، بل استخدمها موظفو «معابد الشفاء القديمة»، والمنتجع الصحي الروماني يشتهر بمياهه العلاجية ويعتبر واحداً من أوائل مراكز المستشفيات في العالم.

وفي أوائل القرن التاسع عشر، فضّل الطبيب والسياسي أمريكي وأحد الموقعين على وثيقة إعلان الاستقلال، بنيامين راش، استخدام الأدب في المستشفيات لتسلية وتعليم المرضى، وبحلول منتصف القرن، كتب الطبيب مينسون جالت الثاني عن استخدامات العلاج بالقراءة في المؤسسات العقلية، وفي عام 1900 أصبحت المكتبات جزءاً مهماً من مؤسسات الطب النفسي الأوروبية.

لكن المفهوم ذاته صاغه الأمريكي صموئيل ماكورد كروثرز في مقال نشر في أغسطس/ آب 1916، من خلال تجربته أثناء الحرب العالمية الأولى وبعد توزيع أمناء المكتبات في المستشفيات العسكرية، الذين لاحظوا تأثير الفعل القرائي في بعض المرضى، وهو ما جرى تطويره من خلال مكتبات المستشفيات بعد أن حطت الحرب أوزارها.

بعد الأرض

لو أن النشاط الثقافي قد توقف، فإن استلهام الأفكار الإبداعية من خلال السياقات المعيشة لا يتوقف أبداً، فالروائية والصحفية الجنوب إفريقية لورين بيوكيس (1976)، استلهمت من فيروس كورونا روايتها «بعد الأرض After land»، التي تدور حول مقتل 4 مليارات رجل بسبب انتشار فيروس لا يقتل إلا الذكور، وأصبح المجتمع الإنساني في حالة سيئة مع عدم وجود علاج في الأفق، وفقدت النساء فرص الإنجاب، ولم يبق سوى عدد محدود من الذكور الناجين أثبتوا أن لديهم مناعة صحية، أو جيناً مقاوماً للمرض، فأصبحوا سلعاً لأجندات مختلفة في عالم يغلب عليه النساء.

وفي الرواية، لا تزال الحكومات صامدة وتستمر الحياة، لكن العالم الذي تديره النساء ليس دائماً مكاناً أفضل. وتظل الأحداث تدور حول «مايلز» البالغ من العمر اثني عشر عاماً، أحد آخر الأولاد على قيد الحياة، وستحاول والدته حمايته بأي ثمن هرباً من أعمال العنف ومطاردة خالة الطفل التي لا تعرف الرحمة.

 

 







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي