البشر يحكمهم إما الاقتناع الأخلاقي أو المسؤولية الواقعية

2021-03-04

المثل العليا عالم خيالي (لوحة للفنان فؤاد حمدي)

أبو بكر العيادي*

عندما يقوم الفرد بما يعتقد أنّه واجب، فإنّه يترك الأمر موكولا للحظّ أو القدر، أو يستعدّ للإجابة عن آثار فعله، حتّى وإن كانت غير مباشرة وغير آنية، ويسعى لتكييفه حسب المعطيات المستجدّة. ولا يعني ذلك أنّه يختار بين ما يسميه ماكس فيبر إيتيقا المسؤولية أو إيتيقا الاقتناع بشكل نهائيّ، لأن الوضع البشري يجعل مسألة الاختيار تتجدّد على الدوام.

في محاضرة ألقاها عام 1917 بجامعة مونيخ، حلل عالم الاجتماع الألماني ماكس فيبر الفرق بين إيتيقا الاقتناع، أي الإرادة الطوباوية التائقة إلى عالم المُثُل، وإيتيقا المسؤولية، أي تطبيق تلك الإرادة في سيرورة التاريخ.

وبيّن فيبر ألا وجود لإيتيقا يمكن أن تتجاهل أننا من جهة نضطر في أغلب الأوقات، لكي نبلغ غايات “خيّرة”، إلى استعمال وسائل غير نزيهة من وجهة نظر أخلاقية، وفي الأقل خطيرة، ومن جهة ثانية نفتح الباب أمام عواقب وخيمة ممكنة أو محتملة. وليس ثمة في العالم إيتيقا يمكن أن تنبئنا عن اللحظة ولا عن الصيغة التي تبرر فيها النهايةُ السعيدة أخلاقيا الوسائلَ والعواقبَ الخطيرة أخلاقيا.

الإشكالية الفيبرية

لقد ظلت ثيمة فيبر عن إيتيقا الاقتناع وإيتيقا المسؤولية مثار جدل بين المثقفين والسياسيين في الديمقراطيات الغربية، لكونها توجِّه في أكثر مظاهرها مسار التحول السياسي، وتطرح مشكلة المسافة بين الواقع والمثل العليا، بين المرامي التي تخضع للاختيار، أي لا تقوم على أساس ثابت، وبين واقع غير مكتمل لا يمكن تحويله إلا متى أخذنا بعين الاعتبار ما يطرأ على أي فعل من تباطؤ.

    إيتيقا الاقتناع وإيتيقا المسؤولية رؤيتان ضروريتان في عالم يواجه الحروب والدسائس  

وفي أحسن العوالم الممكنة لا يبدو الاقتناع والمسؤولية متعارضين، خصوصا إذا تعلق الأمر بعالم يواجه الحرب والدسائس، لأن هذا التعارض يبرز في الأوقات التي تستدعي الحسم، فيفرض عندئذ نفسه دون أن يكون واضحا تمام الوضوح. فالاقتناع ليس له مرجعية قارة لا يمكن المساس بها، وممارسة المسؤولية لا يمكن أن تؤطّرها بسهولة معايير تحدد ما تنطوي عليه.

إن الإشكالية الفيبرية تطرح بوضوح مفردات الجدل، وتحدد بدقة معنى الكلمتين وظروف تطبيقهما، وتمنعنا من استعمالهما بشكل مجرّد، منفصل عن تنظيم الوظائف الاجتماعية التي يمكن أن تكتسب بداخلهما نوعا من التأثير. فالغاية بالنسبة إلى فيبر ليست استخلاص إيتيقا فريدة أو أخلاق ذات بعد كونيّ، وإنما إيتيقا خاصة بنشاط محدد له غايته المخصوصة.

إن إيتيقا المسؤولية، كما يتصورها فيبر، ترجع بالنظر إلى العقلانية الغائية، أي أن ثمة غاية يصبو إليها الناشط أو الفاعل، وتتميز بتخيّر الوسائل من أجل أفق مضاعف: فعاليته العملية والميدانية عملا بقاعدة الغاية تبرر الوسيلة من جهة، وما يتعلق بالعواقب من جهة ثانية. فالعناية بالفعالية تشجع على البرغماتية والتوافق والميل إلى تعديل الوسائل والغايات حسب ما يمكن أن يطرأ على الفعل، فيعاد رسم أبعاد الغاية المنشودة، وهو ما يعبر عنه فيبر أحيانا بـ”إيتيقا النجاح” أو “إيتيقا التكيف مع الممكن”.

وعادة ما يمرّ الاحتراس من عواقب الوسائل المستعملة وعواقب الأعمال المزمع إنجازها بالخصائص المميزة لإيتيقا المسؤولية، أي تصور احتمال الفشل ومجانبة الهدف المنشود، أو إمكانية إضراره بغايات أخرى لها أهميتها على مستوى القيم الواجب احترامها. والاحتراس من العواقب يشمل مراعاة آثار العمل في مختلف مظاهره على المعنيين بالأمر، فالقاعدة الأساسية في إيتيقا المسؤولية هي النظر في العواقب، ما يستدعي الوقاية والحذر.

وفيبر إذ يؤكد على أن إيتيقا المسؤولية تلقى على عاتق القائم بالفعل، وعلى رجل السياسة تحديدا، يبدو متأثرا بالظرف التاريخي الذي عاش فيه، فقد تصور أن غاية السياسة، وغاية كل رجل سياسي حق، هي عظمة الدولة القومية وقوّتها. وهو ما عيب عليه، مثلما عيب على نيتشه قبله احتفاءه بالأوبرمانش (الإنسان الأسمى).

نوعان من الإيتيقا

أمّا إيتيقا الاقتناع فمرجعيتها عقلانية قيمية، أي أنها تهتم أساسا بعدم التنكر لأي قيمة، وعدم انتهاك أي معيار، (كالتزام الصدق والطيبة واحترام الغير وتجنب استعمال العنف…) وغايتها التمسك بانسجام تام مع قناعة معينة، أيا ما تكن الظروف، فالواقع من وجهة نظر المقتنع بها ليس واقعا ماديا، بل هو واقع القيم التي لا تخضع لزمن أو تحوير أو تحريف، والتي ينبغي الوفاء بها مهما كانت التبعات المادية.

وتستوجب إيتيقا الاقتناع صفاء الوسائل المطلق ولا تنظر إلى العواقب، فليست الفاعلية هي المطلوبة هنا، أي انتصار ماديّ لقيمة من القيم، بل مدى احترام الفاعل لتلك القيمة مدّةَ فعله، لأن الفاعل الأخلاقي لا يهتم بالعواقب، وإنما بصفاء نيته، وهو ليس مسؤولا إلا عن طبيعة إرادته، والباقي متروك للحظ والعناية الإلهية، أي أنها بعبارة فيبر “إيثيقا مطلقة” لا تهتم إلا باحترام قيمة ما، دون اعتبار للقيم الأخرى التي يمكن أن تهدد تلك القيمة.

ورغم أنها فردية أساسا، باطنية ينطوي عليها صاحبها، فهي لا تقصر آثارها على الفاعل الأخلاقي الذي يمارسها، بل قد تمتد إلى غيره وتعود عليه بالمضرة، وفيبر يضرب مثلا عن علاقتها الممكنة بالألفية (نظريّة تقول بمُلْك المسيح ألف سنة قبل قيامة الموتى) وبالدمار الكارثي المعلن للعالم، لفسح المجال لعالم جديد. والسبب أن صاحب الاقتناع المطلق لا يحتمل اللاعقلانية الإيتيقية للعالم، ولذلك فهو ينتظر أن تؤول أفعال “المفسدين” إلى عواقب وخيمة، بل يتمنى حدوثها حتى يعترف له العالم بأنه كان على صواب.

كما أن صاحب ذلك الاقتناع يمكن أن يلجأ إلى العنف الراديكالي ليزيل الشر ويقيم عالما لا يحوّله الآخرون إلى جحيم. فلا العلوم ولا التقنيات الحديثة التي تسمح بالتكهن بما يأتي، والعمل على تحسينه أو تلافيه بقادرة على تغيير من يمارس إيتيقا الاقتناع، لأنه لا يحتاج لغير إيمانه وحده. ولو أن العلم نفسه يمارس إيتيقا الاقتناع لكونه مضطرا إلى احترام قيم العلم، وفي طليعتها الحقيقة. وهو ما لا يمكن أن يدعيه رجل السياسة، لأنه مدعو إلى التوافق والتنازل وتغيير المواقف.

وجملة القول إننا إزاء نوعين من الإيتيقا. إيتيقا الاقتناع التي تجد جذورها في المبدأ الكانتي عن الواجب: ينبغي التصرف وفق مبادئ سامية نؤمن بها. وإيتيقا المسؤولية التي تستند إلى الفلسفة الاستتباعية: ينبغي التصرف على ضوء الآثار الملموسة التي يمكن توقعها بصفة معقولة.

ولو طبقنا نوعي الإيتيقا على الجدل الذي رافق رسوم الكاريكاتير في فرنسا لوجدنا أنفسنا أمام إيتيقا اقتناع تؤمن بمبدأ حرية التعبير، وتعتقد أن الديمقراطية تفترض حق أيّ كان في قول ما يريد قوله، حتى وإن أساء إلى جانب من المواطنين. تقابلها إيتيقا مسؤولية تحذر من العواقب الممكنة، المتمثلة في الإهانة التي تلحق معتنقي الديانة الإسلامية، وحتى المنتمين إليها من جهة الثقافة والحضارة، والتي تدفع بالراديكاليين منهم إلى ردود فعل عنيفة، دفاعا عن رسولهم ودينهم.

يقول المفكر الفرنسي ديديي فاسّان “يمكن أن ندافع عن هذه الإيتيقا أو تلك، ولكننا لا نستطيع بحال أن نعتبر هذا الموقف إيتيقيا وننكر ذلك على سواه. فالمفارقة مثلا أن من يدافعون عن حرية التعبير تبلغ بهم راديكالية موقفهم حدّ رفضهم حق الآخرين في التعبير عن مواقفهم”.

 

  • كاتب تونسي






كاريكاتير

إستطلاعات الرأي