الزنوجة والاغتراب الثقافي في «ما لم ينقشه الوشم على الشفق»

2021-02-11

محمد الديهاجي *

مفهوم الكتابة عند الشاعر علال الحجام، في تخلُّق دائم لمقولات الوجود على أساس الديمومة، بله شعرنةٌ للأشياء السائحة في الملكوت. هو مفهوم كيفي لا يتكيف مع العارض والزائل، إنه تخلُّقٌ متصيرٌ للكينونة، من داخل رؤية أو مشروع واضح، وعن وعي وقصد. في كل مرحلة من تجربة هذا الشاعر، تتبدى الكتابة بشكل مجاوز، أي يتجاوز سابقه. كتابة ناسفة ومقوّضة للمعطى الأنالوجي لكي تجترح أفقا شعريا مائزا يجحد بكل دوكسا جمالي أو أصولية معنوية، وهي، عطفا على ذلك، وكما تجلت في فهوماته، احتراقٌ أنطولوجي بالمساءلة الدؤوبة، وباستيلاد اللاممكن من الممكن، احتراق ينجم عنه ألمٌ بسبب الانفصال عن الأصل. أليست الكتابة، على حد تعبير محمد أسليم، فعلا عاديا «يطرأ في سياق عادي»، إنها انتهاك، ألم، وقوف في عتبة الوجود، في الأصل»(عتبة بين الكتابة والألم ).

2

والملاحظ في المنجز الشعري الأخير للشاعر علال الحجام، نزوعه الكبير نحو سؤال الكونية، مستعيضا بذلك عن القيم الأيديولوجية وترسباتها المتكلسة، تلك التي انطلقت في سبعينيات القرن الماضي أصيلة، وانتهت مغتربة، أقول القيم الكونية في الكتابة بما هي أفق وإمكانات عديدة لنص محتمل يتأسس أولا كنموذج أو مثال في مخيلة الشاعر وحده. كل نص أصيل يُضمر ممكنات ومقترحات لنص محتمل يحلُمُ به الشاعر. لم يكن للنص الذي حلم به بدر شاكر السياب ممكنا إلا من خلال صيرورة تجريبية لحلم اشترك فيه كل من نازك الملائكة وعبد الوهاب البياتي وآخرين، ولم يكن تصيُّر الكتابة بالمعنى الهيراقليطي، في ماء قصيدة النثر ممكنا لولا ارتماء جيل بأكمله في النهر ذاته. وإذن أفق النص المحتمل عند الشاعر علال الحجام هو الكونية باعتبارها خطابا يقوض كل ميتافيزيقا شعرية لصالح ما هو نسبي ومشترك. ولعل من تبديات ذلك، في الديوان قيد المدارسة (صدر ضمن منشورات بيت الشعر مطبعة المناهل 2014)، نلفي موضوعا/ثيمة ظلت مغيبة في منجزنا الشعري العربي، أو على الأقل المغربي منه، ألا وهو موضوع الزنوجة. فماذا عن أصول هذا الموضوع؟ وماذا عن حضوره في هذه الإضمامة الرائقة والماتعة قيد المساءلة والمكاشفة؟

3

ليس من قبيل المزايدات الشوفينية إن قلت إن ثيمة الزنوجة ظلت شبه غائبة عن منظومتنا الشعرية العربية برمتها، فإذا استثنينا الشعر السوداني المعاصر، وتحديدا ما تحقق لدى الشاعر محمد الفيتوري، فإن تناول هذا الموضوع من طرف بعض الشعراء العرب، وهم يُعدُّون على رؤوس أصابع اليد الواحدة، كالشاعر الفلسطيني معين بسيسو، على سبيل المثال لا الحصر، أقول إن تناول هذا الموضوع ظل باهتا في مجمله، والحق إن حضور الزنجية في الشعر الإفريقي إبان الفترة الاستعمارية، كان أرقى وأقوى مما تحقق لدى شعرائنا. يكفي أن نذكر شعراء كبارا لكي نُثبّت الزعم، كالشاعر السنيغالي الراحل ليو بولد سيدار سنغور، والشاعر الفرنسي من أصول افريقية إيمي سيزار. ومن بين أهم القضايا التي احتفت بها الزنجية في الشعر، نلفي قضية الهوية أي رابطة الانتماء إلى افريقيا، وكذا الإشادة بأبعادها، على اعتبار أنها شكلت الرافد الأساس لكل الحضارات.

4

ويمكن اعتبار الشاعر علال الحجام، حسب علمنا، ومن خلال هذه الإضمامة تحديدا، الشاعر المغربي الوحيد الذي احتفى بوعي جمالي بهذه القضية، في منجزنا الشعري المغربي المعاصر على الأقل. لقد أفرد الشاعر أكثر من قصيدة لهذا الموضوع الجديد – القديم، الشيء الذي جعل حضوره في الديوان سيّارا إذ لا يمكن البتة للعين الفاحصة أن تُخطئه. فلا غرو في أن شاعرنا في أثناء مُقامه في الولايات المتحدة الأمريكية، أحسّ باغتراب ثقافي فظيع، ما جعله ينخرط بتلقائية أصيلة في النضال الثقافي الرمزي للأفارقة ضدا على كل ميز عنصري، وتناقضات ومفارقات العولمة أو بالأحرى الأمركة. فشاعرنا القادم من عالم افريقي مفعم بالعراقة والأصالة، بعيدا عن كل فردانية مسخت الإنسان وجعلته قاب آلة أو أدنى. يقول في قصيدة «مفتاح الزيزفون»:
لا قُرب تُعانقُهُ وحدتُك
أيها النّغمُ المتوهجُ
سوى ما تبقى لشكك من خطرات اليقين…
ألا تزالُ على قيد الحياة،
ربما بقيت وفيا لنفس الغابة
لئلا يقلق السّنديان،
ربما محوت الذاكرة
علّك تُلازمُ عُشّا آخر بعيدا عن الشجرة
ولئن كانت الزنوجة، في يومنا هذا، قد تحولت إلى مذهب يروم الدفاع عن القيم الإنسانية المشتركة، التي تنبُذ الميز العنصري، وتؤسسُ للحرية والمساواة، فلأن الإنسان الأسود ذا الأصول الافريقية يعيش إقصاء عنصريا، واغترابا ثقافيا مكينا.
والشاعر علال الحجام يقف في أكثر من مناسبة عند هذا الإقصاء المقصود، كما في قوله:
مصيرٌ واحدٌ
تتصالحُ في سراديبه الأضدادُ مُقهقهة
تنطُّ من تاكسي إلى ترامواي
ومن ترامواي إلى باص،
قبالة الفنادق المتآكلة مراياها
تُصالح الفنادق الباذخة
مثلما تتصالحُ البيعةُ والمسجدُ والكنيسة،
مع الخمارات ومتاجر السجائر
ومطاعم الأكلات السريعة
يؤثثها الفقراءُ السّودُ
تخفُرُهم كلابُهم سعيدة.

5

وما يؤشر إلى الحضور اللافت للزنجية، في هذه الأضمومة، كقضية غدت كونية، هو تخصيص الشاعر لقصيدتين كاملتين لهذه الثيمة، وهي: «مغنية سمراء» و»توابل زنجية»، بدون إغفال حضور الزنجية في بعض القصائد الأخرى، بالتصريح تارة، وبالتلميح أخرى. ويمكن تمثل هذه الثيمة في الديوان من خلال مجموعة من الصور نوردها كالآتي:
أ ـ الزنجية المضطهدة:
سؤال الزنوجة عند علال الحجام حمال أوجه في الديوان، إذ لا يني الشاعر طرحها بالارتباط أساسا بماهية الهوية الافريقية وكينونتها. ولما كان « أهم شيء في الجواب يردُ سابقا في السؤال»(جيرار جينيت – وجوه1)، فإن سؤال الكينونة الزنجية في الديوان، سؤالٌ جاحدٌ وكافر بالحاضر، على أمل القطيعة مع مسارات العذابات جراء الميز العنصري والإقصاء واللاأحقية الهوياتية وسط أمركة تبتلع كل ماهو خصوصي. يقول الشاعر ها هنا:
أيُّها البعد اللامرئيُّ لغطرسة
تمتدُّ في براري الخيلاء،
إن كان نداءُ الأسود المبحوح للأبيض
وجعا كالليل لذيذا
فمن يتبّلُ همساته وإشارات أنجمه،
قبل أن يوقظ اللون المحايد من انخطافه
عندما يتمازجُ شُعاعُ الشمس بالمسِّ…؟
ب ـ الزنجية أو الهوية المُغتربة:
يقول الشاعر في قصيدة «ماركت ستريت»:
في باحة المترو
تتأوّهُ قيثارةٌ محلولةُ الأزرار
على صدرها ينتفض أنينُ سكسوفون جريحْ
يتعلّمُ مداعبة الأوتار والخروج عن القاعدة
أمام اندهاش الأشجار
بشغب النيونْ يخبو ويلتمعُ،
في وجه الريح ينتصبُ خليفة
لمغنين يروّضون جمهورا في الظن
ليس سوى سواح خيامُهم على ظهورهم
وموظفين متعبين في نهاية المضمارْ
«لماذا أكذبْ،
وأنا لا أريد غير توفير ثمن بيرة واحدة
لأغني أغنية الغد للعاشقين…؟»
في هذا الديوان، كما يتبين من خلال هذا المقطع، يتبنى الشاعر القضية الزنجية بحماسة نادرة، بل أكثر من ذلك لقد تحولت إلى قناع ومعادل موضوعي له، يكشف عنها كما لو يكشف عن جرح داخلي. فقضية الزنجي هي قضية كل الأفارقة، لأن التاريخ يجمعهم، والجغرافية كذلك، وثقافة واحدة تسكنهم، واغترابٌ واحد يستبدُّ بهم.
ج ـ الزنجية أو الهوية المُغتربة:
إن حضور الزنوجة في هذا الديوان، كما توضّح، هو حضورٌ لكينونة مغبونة، كينونة مضطهدة بسبب الميز العنصري الذي يتعرض له العنصر الأسود في الولايات المتحدة الأمريكية، مهما بلغ شأنه. يقول الشاعر عن تلك المغنية ـ النجمة السمراء:
لم تكن نجمة
في الأعالي لكي تحتمي بالضّيا،
ربما كانت محض شمعة خابية
صفقت لها ريحانةٌ قبل نهاية المطاف
في هذا النص (مغنية سمراء) تسعى الآلية الشعرية جاهدة لكشف حقيقة السود الذين يُعاملون معاملة مواطنين من درجة ثانية وثالثة، في بلد يدعي الديمقراطية مذهبا، ويتشدقُ بها إعلاميا. علما أن هذه الأكاذيب لم تعد تنطلي على أحد فبالأحرى على شاعرِ خبِر الخطاب الأمريكي مضمره ومعلنه.
د ـ اغترابُ الشاعراغترابُ زنجي
في هذه التجربة الشعرية الماتعة والمائزة، بناء ورؤية، يربط الشاعر علال الحجام مصيره بمصير أولئك الزنوج ذوي الأصول الافريقية، ويتبنى قضيتهم باعتبارها قضية إنسانية كبرى في وقتنا الراهن. ويمكن اعتبار هذا الأمر سمة أساسية لكونية الكتابة الشعرية في هذا الديوان. أليس هو القائل:
مصيرٌ واحد
تتصالح في سراديبه الأضدادُ مقهقهة.
ولما كان الاغترابُ عامل إحساس فظيع بالفقد والضياع، وهو بالمناسبة ثيمة أصيلة في الديوان لأنها «تصدر عن إحساس مُريب بالتيه والفقدان والتمزق، حيث تتوالج لغةُ الذات الشاعرة بقدر الكتابة، محولة هذه الذات من حالة الوجود المزيف، بلغة هايدغر، إلى الوجود الأصيل الممتلئ بالحرية والخلق، ذاك الذي يصطدم لا محالة بالموت»(محمد الديهاجي- حداثة النص الشعري)، فإن الشاعر علال الحجام، باعتباره واحدا من المغتربين الأفارقة، يرى أن غربته من غربة هؤلاء الزنوج، الذين تربطهم به رابطة واحدة هي رابطة الانتماء إلى قارة واحدة. يقول عن غربته:
لا قرب تعانقُه وحدتك
أيها النغمُ المتوهج
سوى ما تبقى لشكّك من خطرات اليقين.
وإذن في الديوان اصطدامُ ذات حمالة هوية ثقافية بنموذج غربي آلي، يبتلعُ كل القيم أو ما تبقى منها، ومن ثم أصبح يتملّك هذه الذات إحساس فظيع بالغربة والضياع وسط عالم منفتح على كل الاحتمالات سوى احتمال الألفة:
في اليوم التالي،
تبين أنه أحرق هويته شامخا
ونثر الرماد
على عوسج يستفزُّ النسيم على مرمر الشاهدة
وهو يُطلُّ على مهاوي الجنون
في قبضة انهياره…
إنها هوية مشروخة وقاب قوس أو أدنى من الانهيار، مثلما هي هوية الزنجي المغبونة. وتأسيسا على كل ما سلف، نخلُصُ إلى القول إن المضمر في هذا الديوان هو النسقُ الثقافيُ الافريقيُ الذي يعاني جراء الغربة والإقصاء والميز العنصري في بلد طافح بانفتاحه الليبرالي المتوحش.
إن الاغتراب الثقافي أو بالأحرى الغبن الثقافي الذي تستشعره الذات الشاعرة، ومن خلالها الذات الزنجية، جعل من موضوع الزنوجة، في هذا المنجز الشعري، ظاهرة جديدة في تجربة الشاعر، وفي الشعر المغربي المعاصر، وجديرة بالاهتمام؛ وهو (الشاعر) بذلك يفتح الباب على مصراعيه نحو الكونية.
ولا ريب في أن هذه الحالة من الاغتراب الثقافي، تولدُ عند الشاعر «الرغبة في الامتلاء، مثلما نولد الإحساس بالأم، بسبب الوعي المعرفي الذي يُحدث شعورا فظيعا بالتشظي والضياع. ألمٌ ليس سوى ألم الانفصال عن الأصل، ذاك الذي يحُضُّ على الرغبة في البوح من أجل الخلاص، عبر الكتابة التي تتموج بتموج العالم».(حداثة النص الشعري)

6

والحاصل إن الرؤية التي استحكمت في موضوع الزنوجة في هذه الإضمامة، رؤية ذاتُ ضلعين. الأول حيادي إلى الحدّ الذي يتخذ فيه موقف السائح أو الملاحظ، والثاني رافضٌ وممانعٌ يتبطن غضبا شديدا وكراهية إفريقية لقيم رأسمالية كرّست وتكرس الإقصاء والطهرانية والأحقية العرقية. إنه موقف لا يتسامح البتة مع التمييز العنصري، ولا ينتصر سوى للإنسان.
وبذلك نستطيع القول إن منجز الشاعر علال الحجام قيد الدراسة، شكل منعطفا حقيقيا في منجزنا الشعري المغربي المعاصر، بطرحه قضية تعدّت الطروحات المحلية والإقليمية والجهوية، واستوت قضية كونية تهم الإنسان بشكل عام، نقصد بها قضية الزنوجة كإحدى أهم قضايا هذا العصر.

٭ شاعر وكاتب مغربي







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي