أن لا تكتب

إبراهيم عبد المجيد
2021-01-31

لا أعرف ما الذي قفز بهذا السؤال إلى روحي. ليست كورونا والعزلة في البيت. على العكس كانت العزلة وراء قراءة كثير من الكتب في الفنون والتاريخ والآثار، وكتابة رواية جديدة سأقوم بنشرها بعد حين، وكثيرا من النفحات أطلقت عليها «من نفحات العزلة» صرت أكتبها أحيانا على تويتر أو فيسبوك، عبارات قصيرة تحمل مشاعر أكثر مما تحمل أفكارا، لكن فجأة قفز هذا السؤال إلى روحي.. هل للكتابة معنى؟ هذا سؤال جدير بأي شخص غير الكتَّاب، فالكتاب مدفوعون للكتابة وبغيرها يصبح العالم بلا معنى، لكن ربما لأن الكتابة تجعل بعض الكتاب، وأنا منهم، يشعرون بأن هذا العالم بالفعل بلا معنى. لكن الواحد منا رغم ذلك لا يستطيع التوقف.. التوقف يعني الانتحار، أو المرض الذي لا أتمناه لأحد، أو الزهايمر الذي منذ رأيته على وجه غابرييل غارسيا ماركيز وهو جالس في أيامه الأخيرة يحدق في اللاشيء، وأنا مرعوب منه لا أتمناه لأحد.

بلا شك كانت نظرات ماركيز ترى ما لا يراه الآخرون، كما كان دائما يرى قبل الزهايمر، لكنه لم يعد يستطيع أن يكتب ما يراه. كان دوستويفسكي مصابا بالصرع، وكان بعد أن تنتهي النوبة يكتب، ومن ثم كان كثيرا مما يكتبه غير عادي، استفاد منه فرويد في فهم النفس البشرية. عادة يستفيد الكتّاب من دراسات الآخرين في الفلسفة وعلم النفس، لكن أن يستفيد عالم نفس من كاتب، فهذا أمر لم يفز به ـ في ما أعرف ـ غير فرويد. ظل السؤال يمشي معي عدة أيام، وفكرت أن أكتب كتابا عنوانه، أن لا تكتب، ثم بعد أن بدأت أول جملة ضحكت وتوقفت. ما معنى أن تكتب عن أن لا تكتب، وبأي حروف ستكتبه. أخذني السؤال إلى الماضي، إلى أيام كثيرة لم أكتب فيها لكني كنت أعرف أني سأكتب يوما. لم يكن المانع أكثر من مشاغل العمل، حين كنت أعمل، أو السفر، أو الصعلكة في المقاهي والسهرات. كان التوقف عن الكتابة تهيؤ لها في ما بعد. أضف إلى ذلك مرات مما يسمي بقفلة الكاتب التي لا يعرف أحد أسبابها حتى الآن.

أذكر مرة في أواخرالتسعينيات من القرن الماضي، أن شاهدت فيلم «شكسبير عاشقا» لجوزيف فيينس وجوينيث بالترو، الصدفة جعلتني ألتقي بصحافية أمريكية أجرت معي حوارا لإحدى المجلات. قبل الحوار كانت قد سألتني عن السينما وآخر ما رأيت من أفلام، أخبرتها عن فيلم «شكسبير عاشقا» وأثناء الحوار سألتني إنه في الفيلم حين أصابت شكسبير قفلة من الكتابة، التقى بعشيقته في مشهد مثير في الفيلم – بالمناسبة هو المشهد الذي ظهرت فيه جوينيث بالترو عارية تماما – ثم عاد إلى الكتابة فهل تفعلون أنتم ذلك. ضحكت وقلت لها نحن نتغلب على قفلة الكاتب بزجاجة بيبسي وانطلقت تضحك. المهم هذه كانت ضمن أسباب الانقطاع عن الكتابة.

وتجربة أخرى كنت أفعلها عمدا أيام الشباب وما بعده، حتى قبل الشيخوخة، وهي أني أتوقف وأظل أفكر في ما أكتب كثيرا، وأتخيل ما أكتبه فقد أراه على شكل أفضل، مختبرا القدرة على النسيان، وكيف يمكن للاشعور أن يعيد لي ما أريد، لأني من المؤمنين إنه لا يضيع منك إلا ما ليس لك رغبة فيه، ولا تندم عليه ككاتب فاللاشعور مخزن لا ينضب، وبقدر شوقك يعيد إليك ما تشتاق. هذه أفعال مجنونة كنت أفعلها لأنه قبل الشيخوخة لا تفكر في الموت، ودائما تعيش بدون عمد، وكأن أمامك متسعا من العمر. تَرَف التعامل مع الوقت قبل الشيخوخة طبيعي جدا، على عكس الآن فما أن أبدا حتى أتفرغ لما أكتب لانتهي منه، لأن الفضاء قد لا يخلو من مفاجآت الطيران فيه، أي أنه حتى عدم الكتابة في بعض الأحيان كان ترفا جميلا. وجدت أن السؤال سيأخذني إلى معان مباشرة لا أحب رائحتها. وهي إنه حين تنظر حولك بعد كل ما كتبت ترى العالم قد ازاد قبحا وحصارا. ترى الأشياء التافهة هي ما يشغل الفضاء السياسي والاجتماعي والثقافي، الأمثلة كثيرة أقربها الدنيا التي انقلبت لأن عددا من السيدات في نادي شهير، صنعن حلويات على هيئة أعضاء جنسية للرجال والنساء وأكلنها. غير ذلك كثير يحاصرني ويحاصر غيري الآن.

لا أحب أن استسلم لليأس أبدا، وها أنذا أكتب مقالي سعيدا، لكن الحقيقة أتمنى أحيانا أن أكتب بلغة لا يعرفها أحد، ليس زهدا في القراء فهم أجمل ما في الكون، لكن إجابة على سؤال أين ذهبت الكتب التي كتبها الآلاف من الكتاب.

موضوع يهمك : ماذا يمكن أن تكون الفلسفة في عيدها العالمي؟

وحين تتلفت حولك إلى ما هو جاد تكاد تصاب بالهوس، فكل ما اتُهمت به الثورات العربية منذ عام 2011 هو أنها ثورات أجنبية، حتى أنهم سموها بالربيع العبري، وبعد أن أفشلوا الثورات جروا إلى إسرائيل، وإذا تركت نفسك إلى كل شيء، وهو للأسف يأتي إليك لأنك لا يمكن أن تقرأ أو تكتب طول اليوم، فستجد إنه يتم القبض على فتيات استخدمن موقع «التيك توك» لأنهن ظهرن بالمايوهات، أو بملابس تُظهر أجزاء من أكتافهن، ومن ثم فهذه دعوة للفجور، رغم أن حرية الدخول إلى أي موقع أو عدم الدخول مكفولة لأي شخص، وتتذكر ما جرى من قيامة ضد الإخوان المسلمين، الذين كان الرعب أن ينشروا فصائل الأمر بالمعروف في الشوارع. فضلا عن القضايا التي لا تنتهي لكثير من الشباب والكبار تحت قانون يسمى الحبس المفتوح لمدة عامين. ترى الأغلبية منهم من شباب ثورة يناير/كانون الثاني، وبعد العامين ترى إنه يتم تدوير المتهم بقضية جديدة، وكأن الدولة بنفسها تكتب من جديد رواية «صحراء التتار» أو مسرحية «في انتظار غودو» أو حتى قصيدة «في انتظار البرابرة» لكفافيس، وهذه الأعمال بالذات أكثر مما يهب على روحي هذه الأيام وكثيرا ما أذكرها في مقالاتي.

أعرف كيف أهرب مما حولي بالموسيقى، لكن أيضا انتهى الأمر فيها إلى هجرة الطرب العربي لأنه يأتي بالدموع، بينما الموسيقى الكلاسيكية لم تعد تحملني من مكاني! أدرك أن هذا كله سبب في أن أفكر في أن لا أكتب، فأفكر في الكتابة عن أن لا تكتب! على العكس أيضا في لحظات أجد أنه حافز للبحث عن فضاء آخر.

لا أحب أن استسلم لليأس أبدا، وها أنذا أكتب مقالي سعيدا، لكن الحقيقة أتمنى أحيانا أن أكتب بلغة لا يعرفها أحد، ليس زهدا في القراء فهم أجمل ما في الكون، لكن إجابة على سؤال أين ذهبت الكتب التي كتبها الآلاف من الكتاب.. ضاعت فرصة أن تحرق أعمالك فلا يراها أحد، لأنها صارت على كل المواقع مسروقة أو غير مسروقة، ولن تستطيع أن تحرق المواقع، لغة أخرى غير لغات العالم هي الإنقاذ الآن، فربما تفتح الفضاء لكائنات خرافية تفهمها، وتأتي تحملك معها إلى كوكبهم الذي لم يصل إليه العلماء بعد، لكن حتى هذا يمكن أن يصبح رواية تكتبها وتعود بعدها إلى ما حولك. الكارثة إنك لن تجد إجابة على سؤال أن لا تكتب غير ما حولك، وهو في كل الأحوال له علاقة بالسياسة، وما يجري فيها من عبث، والسياسة تفسد الكتابة كما تفسد الحياة، لكن الجميل وأنا أفكر في هذا، أني وجدت قصة قصيرة ضاعت مني بعد نشرها منذ حوالي ثلاثين سنة، وكان عنوانها «الجدار». قصة قصيرة جدا عن شخص عائد في المساء إلى بيته فوجد جدارا في كل شارع يدخله. لم يستطع الوصول إلى بيته وظل يدور في تصميم ليجد طريقا، فترتفع أمامه الجدران حتى انقضى النهار ولم يأتِ الليل. سأضمها إلى أعمالي في ما بعد، لكنها أضحكتني وأنا اسأل نفسي، هل عاد بطل القصة إلى بيته أم لايزال في فضاء لا يعرفه، ولاتزال الجدران ترتفع في كل طريق؟ أخذت منها كثيرا من الأمل فقد كتبتها رغم الجدران، لكنني فعلا ما زلت أفكر أن أكتب كتابا عن أن لا تكتب، والمشكلة إنه سيكون مكتوبا فكيف أحل المشكلة؟







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي