رواية كابوسية تستعيد الهجرة السرية

2020-12-15

"الجدار" للبريطاني جون لانكستر في ترجمة عربية

القاهرة - منى أبو النصر

تتسرب أجواء البرودة من السطور الأولى لرواية «الجدار» للكاتب البريطاني جون لانكستر، فصوت الراوي يُخبرنا أن «الجو بارد على الجدار»، ويظل يكرر هذا الهاجس بثبات انفعالي كأنه الشيء الوحيد الذي يستطيع إدراكه في تلك اللحظة، «هذا هو الشيء الذي يشغل تفكيرك، طوال فترة وجودك هناك، والشيء الذي تظل تتذكره، عندما لا تعود موجوداً هناك. الجو بارد على الجدار».

وصدرت الترجمة العربية للرواية بتوقيع المترجمة المصرية إيناس التركي، عن دار «الرافدين» للنشر والتوزيع، وفيها يُوظف الكاتب صوت بطله الداخلي وهو يستكشف محيطه الجديد البارد، فالبطل «كافاناه» يُسلّم نفسه كمُجند للخدمة في «الجدار» ذلك المكان الأقرب للوحش الخرساني الممتد حتى الأفق والمنخفض الارتفاع.

يفتتح السرد بانطباعات البطل المبكرة في يومه الأول في الخدمة في هذا المكان، الذي سيقضي به عامين، ليفتح أمامه، وفي طوايا نفسه، مسارات تأمل في جغرافيا المكان، ونوعية الناس الذين سيقضي معهم الخدمة، ونوعية البرد الذي لا يشبه برداً آخر «هذا البرد خاص بالمكان، كأنه صفة مادية دائمة من صفاته»، وحتى نوعية الحياة التي يستشرفها «لا توجد خيارات، كل شيء متعلق بالجدار يعني أنه لا توجد لديك خيارات».

تقع الرواية في 256 صفحة من القطع الصغير، وتنقسم إلى ثلاثة فصول وهي «الجدار»، و«الآخرون»، و«البحر»، وكل عنوان هنا يشي بتطور جديد في حركة الحكاية، فالجدار هو المكان الصلد الخرساني الذي يلتف بطول ساحل البلد الخيالي الذي تدور فيه أحداث الرواية، حيث يتم تجنيد أمثال «كافاناه» لحراسته في ورديات متصلة ليل نهار، والدفاع عنه ضد هجوم اليائسين التائهين وسط البحار الهائجة في محاولة للوصول إلى ما تبقى من أرض يابسة في العالم أو أرض «الجدار»، فهؤلاء اليائسون هم «الآخرون»، وهم الأعداء الذين يقوم مجندو الجدار بالتدريب لساعات لمواجهتهم، إذا قاموا بالاقتراب من الجدار وعالمه البارد.

ملامح مأساوية

يرسم لانكستر ملامح عالم الجدار بمعالم ديسوبية، كأنه يتخيّل ما قد يصل إليه العالم الذي يتآكل وتتقلص أرضه بفعل تغيّر المناخ، طارحاً في الوقت ذاته نقداً أدبياً وإنسانياً مُشتقاً من السياقات السياسية التي ارتبطت ببناء الجدران العازلة بين الشعوب على مدار التاريخ المعاصر، فعالم «كافاناه» ومن معه يسكنهم الخوف والرعب الدائمين وهم يستعدون لمواجهة «آخرين» قد يأتونهم عبر البحر، وقد منعهم خوفهم هذا من التفكير في الحب، أو التناسل، أو حتى الحنين للقديم، فاستدعاء ذكرى آبائهم أو الجيل الأكبر يشوبها كثير من المُحاسبة باعتبار حاضرهم البائس هذا هو ثمرة خطايا الماضي المرعبة.

ولعل الماضي والحاضر والمستقبل وتنويعات الزمن واحدة من تأملات الرواية التي تتردد في بواطن البطل الغارق في خوفه من وقوع هجوم محتمل، أو ارتكاب خطأ يتسبب في تمديد مدة خدمته في الجدار لأكثر من عامين «729 ليلة أخرى»، أو مصير أسوأ وهو الإلقاء في البحر ليصبح «آخر» ضمن آخرين مُشردين محاطين بالظلمات والخوف والوحدة، فالزمن لديه كابوس مُمتد «حيث إن مسؤولياتك، وأحداث يومك، وكل أفكارك، تدور حول الجدار، وحياتك المستقبلية يتحكم فيها ما يحدث على الجدار، فيمكنك أن تفقد حياتك بمنتهى السهولة هنا، أو تفقد الحياة التي أردت أن تحياها، يأخذ الكيانان في الاندماج معاً، الزمن والجدار، الجدار ويومك وحياتك وهي تنسل عابرة دقيقة تلو الأخرى».

مقاربات شعرية

يعزف الكاتب على وتر الرتابة في حياة الجدار «الوقت على الجدار ينسال كدبس السكر»، وأحياناً يستعين في وصف الوقت بلغة ومقاربات شعرية تسكن بطل الرواية الغارق في تأملاته التي يبدو كأنها حليفه الآمن في أيام الجدار، فهو مهووس بإيجاد وصف مناسب للجدار، يقول عنه: «هو قصيدة ملموسة. يبدو ذلك الشكل ملائماً لأسلوب الحياة على الجدار، لأن الحياة على الجدار تشبه قصيدة أكثر منها حكاية. فالأيام لا تتباين كثيراً، ولا يوجد كثير من الانتقال من النقطة أ إلى النقطة ب، لا يوجد كثير من السرد»، إلا أن السرد في الرواية ينجرف إلى حد بعيد بعدما يلقى «كافاناه» عقوبة تقصيره في الخدمة وفشله في أداء مهمته كمدافع، فنجد أصداء السرد تصل إلى عرض البحر، ليدخل في غياهب رحلة لا حدود لأخطارها «أحياناً يخدعك عقلك عندما تكون على الجدار، لكن الأمر أسوأ كثيراً في عرض البحر. فالمرء يفتقد التوازن الجسدي على متن قارب صغير، ومن الممكن أن يشعر أنه يفتقد للتوازن العقلي أيضاً. لا يمكنك أن تثق في حواسك، وتقل ثقتك في خيالك بشكل أكبر».

في أجواء كابوسية تتراءى الأعماق الخيالية في الرواية، أمام القارئ، تعيده في حالة من الحزن والألم إلى مشاهد الهجرة السرية وقراصنة الهجرة وغيرها من مفردات هذا العالم الواقعي البائس، فالرواية تتخيل حال بلد وحيد ناجٍ يحيط نفسه بجدار خشية اختراق بشر على متن مراكب في البحر له، وعلى الرغم من أنهم يائسون تماماً لا يملكون خرسانة وآلاف الجنود إلا أنهم مخيفون لشعب الجدار، ليجعل المؤلف من بطله «كافاناه» أمثولة مزدوجة لشعب الجدار المُستعبد وراء قوانين الخرسانة، وشعب البحر الغارق على أمل بلوغ واقع مُستقر باذلاً مشقة اجتياز الجدار، فالبطل يبذل قصارى جهده للدفاع عن الجدار وقاتل بشدة، ومع ذلك نجح «الآخرون» في اختراق الجدار، ليتنقل البطل في مسارات رحلة البحر، ومعها رحلة تأمل في معاني اليأس التي يراها كحالة عقلية تشبه نظاماً للطقس، أو شيء يتعين التعايش معه أو تحت تأثيره: «يتعين علينا جميعاً، في لحظة من حياتنا، أن نفكر لبعض الوقت في أسوأ شيء يمكننا أن نتخيل وقوعه. علينا أن نفكر في أسوأ مخاوفنا، ونبحث عنها في أعماقنا.

وعلينا أن نتقبل أنها ستقع بالفعل. سوف تتحقق أسوأ مخاوفك، وعندها يحدث ذلك، فالشعور الذي ينتابك هو اليأس». إنه اليأس الذي يصل إليه البطل ليس بسبب خياراته الشخصية، التي لم يختر أياً منها، وإنما هي أثمان خيارات أسلافه الذين اختاروا بناء جدران بدلاً من بناء جسور، وهي أثمان تُعظم الرواية من ديستوبيتها، وتجعل الخيال الروائي هنا غير بعيد عن مُخيلات المستقبل التي يُحدّث بها لسان الواقع.

 







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي