فيودور دوستويفسكي.. عن إنسان القبو السرّي

2020-11-27

تمثال لـ دوستويفسكي في مدينة توبولسك الروسية (Getty)

محمود منير

 

في عام 1864، نشر فيودور دوستويفسكي روايته "رسائل من تحت الأرض"، التي رسم فيها شخصية بطل لديه شعور عارم بعدم الرضا عن الواقع، ويكره الرياضيات، ولا يرغب في العيش على طريقة داروين، ولديه أفكار مكتظة حول الحياة، وهو يشبه بذلك آلاف البشر الذين يتوزّعون على معظم مدن العالم في اللحظة الراهنة.

يقدّم الروائي الروسي (1821 - 1881)، الذي بدأت في الحادي عشر من تشرين الثاني/ نوفمبر الجاري الاحتفالات بمرور مئتي عام على مولده، في روايته القصيرة نسبياً، قياساً ببقية أعماله، تساؤلات حرجة حول معنى الحرية وشرط الاختيار، والتي لم ينفكّ يطرحها طوال حياته، خشية الركون إلى حقيقة خضوعه واستسلامه لمجتمعه ومنظومة القوانين "المنطقية" التي تتحكّم فيه.

واحدة من شخصيات دوستويفسكي المضطربة التي كتب فرانز كافكا عنها ذات يوم بأنها ليست مريضة كما ينظر إليها النقّاد ودارسو صاحب رواية "الجريمة والعقاب"، وإنما كان مرضها مجرّد وسيلة لوصفها والغوص في أعماقها بطريقة ناجعة، وهي قراءة جديرة بالانتباه، طالما أن هذه الشخصيات لا تزال صالحة للتناول بعد مرور قرنين على خلقها، والتعامل معها كأنها لا تزال تحيا بيننا.

آراء كثيرة قد تُلقى على طاولة النقاش مع افتتاح النصب التذكاري قبل أيام في مدينة سانت بطرسبرغ التي تحتصن رفات الكاتب الروسي، كما سيفتتح متحف جديد يوثّق سيرته ويضيء أبرز مفاصلها وأعماله الروائية في موسكو؛ الحاضرة التي وُلد فيها لأب ورث عنه مرض الصرع والإفراط في الشرب وسرعة الانفعال، وربما عاش حياته يتأمّل تسلّطه ويفكّك نموذجه الأبوي ووصائيته المرتبطة بالعنف، كما قدّمها في معظم رواياته وأهمّها "الإخوة كارامازوف".

 

كان المرض العقلي وسيلة لوصف أبطاله والغوص في أعماقهم

شكّلت روايته هذه مرجعاً أساسياً لسيغموند فرويد في بحث استمر أكثر من عامين حول عقدة قتل الأب، التي ربط بينها وبين رغبة التماثل معه، من خلال أربعة أبناء كلّ واحد منهم لديه شخصيته وسلوكه المختلفان، حيث يريد الابن قتل أبيه ليس لأنه يكرهه ويريد إبعاده، بل لأنه معجب به ويسعى إلى أن يأخذ مكانته، وتتراجع الفكرة خوفاً من العقاب، ما يولّد إحساساً بالذنب لدى الابن.

أسقط عالم النفس النمساوي أفكاره ومفاهيمه على هذه الرواية، مثلما فعل مع روايات أخرى لدوستويفسكي، حيث رأى أن القمار في رواية "المقامر" كان "طريقة أُخرى لمعاقبة الذات"، أو تنظيره حول القرين الذي استمدّه من رواية "الشبيه" باعتباره "آخر" تخلقه الشخصية وكأنها تنظر في مرآة نفسها.

منذ بداية الشهر الحالي، انطلقت عدّة فعاليات في روسيا وبلدان أخرى لاستعادة صاحب رواية "الأبله" التي لا يمكن أن تنفصل عن سيرة الكاتب الذي نشأ في أفقر أحياء موسكو بالقرب من مستشفى مريانسكي للمجانين وكان يتمشّى في حديقته يتحدّث مع النزلاء الذين كانوا أبطال طفولته إلى جانب المجرمين الذين اشتهروا في الحيّ ولم تغب ملامحهم عن العديد من أبطال رواياته.

 

الجنون والإجرام واليتم طبعت طفولته في حي فقير بموسكو

الإجرام والجنون لم ينقصهما سوى اليتم مع فقدان دوستويفسكي والدته في السادسة عشرة من عمره، ثم دراسته للرياضيات واجتيازه جميع الامتحانات بدرجات عالية ونفوره منها لاحقاً متوجّهاً نحو كتابة المسرح؛ حيث سيلتحق بـ"جمعية بتراشيفسكي" السرية التي تبنّت العنف الثوري، ليُلقى القبض عليه عام 1849 ويُحكم عليه بالحبس في سجن الأشغال الشاقة في سيبيريا أربع سنوات، قبل أن يخرج منه بعد وساطة أحد البارونات وينضمّ إلى الكلية الحربية التي تخرّج منها ضابطاً، لكنه سيترك عمله بعد عدّة أعوام، ويتفرّغ للكتابة الروائية والصحافية، وهناك سيعيد التفكير في كل قناعاته حول الأسرة والمال والسلطة والدين ويقاربها في أعماله التي تُرجمت إلى عشرات اللغات.

بالعودة إلى القبو الذي يسكن فيه بطل روايته "رسائل من تحت الأرض"، سنتواجه مع رجل وجد في العزلة ملاذاً، مسرف في جلد ذاته، يائس ومتناقض، ويتمنّى أن يتفلّت من القيود والضوابط العقلية والاجتماعية. إنه إنسان مهصور من سلطات متعددة، ومتوتّر من حاضره، خائف من مستقبله، ربما جرى تصنيعه بالملايين ليشكل غالبية البشر اليوم.

 







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي