سيلفي شالاي تفضح العنصرية المتحكمة بأعرق مسارح العالم

لماذا يغيب السود عن المسرح الفرنسي

2020-07-22

مسرحيون مهمشون ومقصيونأبو بكر العيادي - باريس - في ظرف شهد فورة عارمة ضدّ عنصرية البيض في الولايات المتحدة وفي بلدان أوروبية أخرى من بينها فرنسا، وما رافقها من تحطيم لأصنام تجار الرقيق ورموز الاستعباد، صدر كتاب سيلفي شالاي “العرق والمسرح” ليؤجج الجدل حول غياب السود عن المسرح الفرنسيّ، ودوافعه التي يعزوها بعضهم إلى عنصرية لا تفصح عن اسمها، لاسيّما أن المؤلفة استعملت مصطلحا، هو العرق.

هذا المصطلح تمّ إلغاؤه بمقتضى قانون 2016 المتعلق بتجديد القضاء في القرن الواحد والعشرين، ثمّ أقرّه القانون الجنائي عام 2017 وبيّن أن استخدامه لا يمكن أن ينطبق على البشر، ولكنه لا يزال قائما في الدستور الذي يؤكد أن “الجمهورية الفرنسية… تكفل المساواة بين جميع المواطنين أمام القانون دون تمييز في الأصل أو العرق أو الدين”. وقد لجأت إليه الكاتبة لتوصيف ظاهرة ووضعِها في إطارها، حتى وإن اعترض عليه جانب هامّ من رجال المسرح، ينفي اختيار الممثلين من منطلق عنصري.

تهميش عنصري
الإقصاء الذي يواجَه به السود في المسرح الفرنسي ليس جديدا على سيلفي شالاي، فهي من المهتمين القلائل بهذه المسألة، إذ سبق أن عالجته عام 1995 في رسالتها الجامعية “من الأسود إلى الزنجيّ من خلال المسرح الفرنسي (1550-1960): صورة الأسْود من مارغريت دو نافار إلى جان جيني”، ثم واصلت بحوثها عن مدى حضور أصلاء أقاليم ما وراء البحار الواقعة تحت الحكم الفرنسي والفرنسيين من أصول أفريقية في الفنون بعامة، وفي المسرح بخاصة.

وأوضحت في هذا الكتاب أن تلك الفئة من الفرنسيين قليلة الحضور في المسرح الفرنسي أو أنها موضوعة في دركه الأسفل، تُستخدم في أدوار هامشية تثبّت الصور النمطية المتدنّية للسود، تلك التي كانت تفقدهم إنسانيتهم منذ بداية الاسترقاق إلى مرحلة الغزو الاستعماري في القرن التاسع عشر. ثم جاء المسرح، وكذلك السينما والإعلانات الإشهارية، ليكرّس تلك الصورة ويرسّخها في أذهان المتلقين البيض.

ومسألة حضور الفنانين غير البيض على خشبات المسارح الفرنسية لا تُطرح دائما بالطريقة نفسها. فمنذ نهاية الحرب العالمية الثانية إلى أواسط السبعينات، لم يكن المخرجون يترددون في منح السود أدوارَ بيض، ولكن المنعرج بدأ في نهاية ما عرف بـ”الثلاثين المجيدة”، وهي الفترة التي شهدت فيها فرنسا نهضة صناعية واقتصادية هائلة، تغيرت إثرها صورة الرجل الأسود، وصار ينظر إليه كمهاجر أو عاطل.

ولئن فتحت السينما والتلفزيون والشركات الإشهارية الباب أمام السود، فإن المسرح لا يزال يتمنّع عليهم. وكان من أثر غيابهم عن الخشبة إيعاز ضمني بأن عليهم أن يقنعوا بالحديث في أعمالهم عن أصولهم الأفريقية أو الكراييبية، ما يعني أن حصرهم فيها يعكس تشرّبا لاوعيا لمعيار وتاريخ كولونيالي لا يزالان يكيفان الأذهان برغم مرور ثلاثة أجيال على حروب الاستقلال التي خاضتها البلدان المستعمَرة، وهو ما يدلّ دلالة عميقة على وجود أمر سياسي غير معلن، يقع بين أزمة التمثيل الديمقراطي وكتابة السردية القومية. فالفن التصويري ثم الفرجة الحية والسينما كرّست مخيالا ساهم في خلق نمطيّات وأحكام مسبقة وتهويمات أدّت إلى “العَنْصرة”، وهو مصطلح أوجده علم الاجتماع في نهاية السبعينات لتصنيف المجموعات الاجتماعية حسب خصائصها البيولوجية، كما بيّنّا في مقالة سابقة (جدل فرنسي متجدد في المسألة العِرقية – مجلة الجديد، العدد 62، مارس 2020).

هذا التنظير التدريجي لظاهرة حدثيّة فعلية تتمثل من جهة في حصر الممثلين السود في أدوار كتبها مؤلفو الزُّنوجة أو في أدوار المهاجر والغريب، ومن جهة أخرى في غرس محظور دام قرونا يمنعهم من أداء أدوار المدونة الكلاسيكية الفرنسية والعالمية، رافقته محاولات جادة ركزت على جمالية التعدد الثقافي، ودافعت عن حضور السود في أعمالها، على غرار جان فيلار حين عهد لممثل من أصل سنغالي بدور البطولة، أو جان سيرّو الذي أقحم في مسرحياته ممثلين من كل الأجناس، وأسند هو أيضا دور البطولة في مسرحية “الإنسان بالإنسان” لبرتولدبريخت لممثل من أصل سينغالي.

كتاب يثبت الصور النمطية المتدنّية للسود في المسرح الفرنسي

كذلك روجي بلان الذي منح دور دون جوان لممثل من غوادلوب، أو بيتر بروك الذي فتح مسرحه للملوّنين، أو المؤلف برنار ماري كولتيس الذي كان يشترط أن يتقمص أدوارَ السودِ في مسرحياته سودٌ وأدوارَ العرب عرب. ولكنها ظلت محدودة ولم تغير العقلية السائدة، ما خلق نوعا من الميز العنصري يغلفه أصحابه بميز اجتماعي. وزاد في تعميقه ظهور ما يشبه محميات الهنود الحمر، إذ تمّ بعث مهرجانات خاصة بالسود وحدهم كـ”مهرجان الفرانكوفونيات” في ليموج، و”المدرج” في باريس و”كنيسة الكلمة المجسّدة” في أفينيون من أواسط الثمانينات إلى نهاية التسعينات.

الجمهور تغير
هذا الميز لم يواجَه بسياسة تمييز إيجابي حقيقية أو بسياسة محاصصة، بل إن السلطات العامة لم تسع إلى وضع برامج تكوين يشجع الأقليات إلا لماما. ما دفع بالجيل الجديد من الممثلين السود إلى إعلاء أصواتهم والتنديد بما عدّوه صراحة ميزا عنصريّا، فقد رفضوا أن يقع التعامل معهم حسب لون بشرتهم، سواء من خلال مؤلفات جماعية مثل كتاب “سوداء ليست مهنتي” الذي أشرفت عليه الممثلة أيسا مايغا، أو عبر تحركات عنيفة أحيانا، كالذي قامت به عدة جمعيات سوداء حين عمدت في ربيع العام الماضي إلى سدّ منافذ جامعة السوربون، حيث كان مقررا عرض مسرحية إسخيلوس “اليومنيديات” أو “المتضرّعات، راجيات الخير”، بسبب لجوء المخرج فيليب بروني مدير فرقة ديمودوكوس إلى ممثلات بيض تقنّعن بالأسود لتقمص أدوار شخصيات سوداء، بدعوى حرية الخلق والإبداع.

فبروني شأن كثير من رجال المسرح، ينكر التحيّز، ويؤكد على حريته التامة في اختيار الأجدر لهذا الدور أو ذاك، وإذا كان السود لا يظهرون كما يرغبون فذلك راجع في اعتقاده إلى ظروفهم الاجتماعية وتكوينهم الفني الذي هو من مشمولات المؤسسات الراعية. وما ذلك في نظر لويس جورج تان، أحد أعضاء الهيئة التمثيلية للجمعيات السوداء، إلا تعبير عن عنصرية لاواعية لبعض من يدّعون الاعتدال في اليسار واليمين على حدّ سواء، فهم الذين يعطلون دائما كل تقدم.

والكاتبة تقترح الخروج مما تسميه حظيرة انغلق سياجها على فئة من الفرنسيين، فالجمهور تغير منذ أواخر القرن الماضي، والوقت قد حان كي يعكس المسرح المجتمع الذي ينشط فيه بصورة أفضل، وينفتح على التنوع الذي يزخر به. فهي لا تطرح في كتابها قضية العرق في المسرح بهدف البرهنة على وجودها بل لحثّ الناس على تجاهلها حتى يتعلم الجميع، بيضا وسودا، التمثيل معا بشكل مغاير ويفكّوا أحابيل المخيال الكولونيالي الذي انبنى عند ابتداع العرقية.

تقول سيلفي شالاي “أن يكون المرء معنصَرا فذلك يعني حصره في لون بشرته ودوره كأسود وأفريقي، ويعني فوق ذلك إقصاءَه من السردية الوطنية، وكأن استقلال الدول المستعمَرة سابقا أنسى الناس أن تاريخهم مشترك”.


*كاتب تونسي








كاريكاتير

إستطلاعات الرأي