ساراماغو محتفلا بما تبقى من طفولته

2020-06-18

 حسن داوود*

لم يشأ جوزيه ساراماغو أن يفاجئ قرّاءه، بدءا من صفحة مذكّراته الأولى، بذكر ما هو خارق أو غريب أو غير قابل للتصديق. أتذكّر هنا «اعترافات قناع» ليوكيو ميشيما الذي ـ ساعيا إلى إبهار هؤلاء، والعرب من بينهم، بعد أن تُرجم الكتاب إلى العربية في الثمانينيات ـ بدأ بوصف ما رآه حوله في اليوم الأوّل لولادته.

ساراماغو اختار وجهة أخرى لتذكّر طفولته، سِمتها الاعتراف بأن شيئا استثنائيا لم يحدث. هي طفولة بالحدّ الأدنى، «ذكريات صغيرة» بحسب ما اختار عنونتها. وهي في أحيان صغيرةٌ إلى حدّ أن كاتبها حرص على أن يُعلمنا أنه ولد قبل يومين مما هو مدوّن في سجلّه (في الثامن عشر من نوفمبر/تشرين الثاني وليس في في السادس عشر منه)، كما أنه في صفحة كاملة نقرأه وهو يعدّد المنازل الثمانية، التي تنقل بينها مع عائلته، «لا بسبب العجز عن دفع الإيجار»، يوضح، فقد كان والده حارسا في الأمن العام، يرتدي زيّ الحرّاس الموحد. لكن ذلك لم يكن عاصما من الفقر الذي ـ مع ذلك ـ يطغى على اليوميات كلها.

في ذلك لا يغيب عن كاتبنا المتذكِّر، أن يروي أشد مظاهر الفقر قساوة مثل أن يتعرض له، وهو بعدُ في عمر السنتين، صبيانٌ غرباء عن حيّه ليعابثوه بإدخال سلك معدني في عضوه الذكري وصل إلى عمق جسمه. أما الفقر الجميل، إن صحّ هذا الوصف، فنقرأه في الرحلة التي قام بها مع خاله مانويل إلى سوق سانتاريم لبيع الخنازير، حيث كان موسم بيعها في قريته أزينياجا منخفضا في تلك السنة. كل ما جرى في تلك الرحلة، على قسوته ومشقة طريقه الطويلة برفقة الخنازير، كان محتملا، بل كان جميلا، كما لو أن الصبيّ وخاله كانا في رحلة استجمام حقيقية.

الجميل في عمر الطفولة ذاك هو الاكتشاف الأوليّ لما سيصير في ما بعد عالم الجنس. ذاك الذي اضطر الكاتب لأن يصحّح أن مداعباته الأولى مع إحدى قريباته حصلت في عمر السادسة، وليس في الحادية عشرة، كما كان قد ذكر خطأ في فصل سبق، وإلا لما كان الأهل سيكتفون، كعقاب، بصفعة على المؤخرّة. ثم هناك المدرسة، أو المدارس التي، كما البيوت، تتراوح الفوارق بينها بدءا من الشكل الأولي للبناء الطيني، الذي لم تداخله مادة بناء أخرى. ثم رفاق المدرسة، وحادثة حيازة الصبيّ جوزيه ساراماغو جائزة نتيجة تفوّقه في الإملاء، تلك التي شعر معها أنه ملك متوّج على سائر الكون.

  لم يزد الحيّز الذي خصصّه ساراماغو لبداية تعلّقه بالقراءه عن تلك التي تناول فيها الجوانب المتعدّدة من طفولته، أو من فتوته المبّكرة. كل شيء جرى ذكره بقدر يكاد يكون متساوي الأهمية مع سواه

ثم قراءاته الأولى، التي تحقّقت له بالصدفة طالما أن الكتب ضؤلت حتى عن وصفها بالنادرة، فكان حدثا ينبغي تدوينه حين رأى في صندوق الخالة المقفل صفحات من جريدة قديمة تغطي جوانب الصندوق، ربما من أجل تغطية الشقوق كما ظنّ، أو ربما «أن الحروف والكلمات والصور كانت أشياء جذّابة لجدتي، كما ستصير الكتابة الصينية أو العربية جذابة بعد ذلك للحفيد (الذي هو جوزيه ساراماغو نفسه»).

في وسط الكتاب يتحدّث ساراماغو عن علاقته بالقراءة، تلك التي بدأت مع رواية كانت شهيرة آنذاك عنوانها «ماريا، حورية الغابتين». لم يكن قارئا آنذاك، إذ أن إحدى الجارات (أم فيليكس) تطوّعت لأن تقرأ «للأميّيْن أنا وأمي» أجزاء من تلك الرواية. «كنا نجلس ثلاثتنا على المقاعد الصغيرة. وكنا نستسلم للطيران على أجنحة الكلمات، لنصل إلى ذاك العالم المختلف عن عالمنا». كانت تلك الرواية نسخة من روايات كثيرة متنوعة، تقوم كلها على ثلاثي الفتاة الفقيرة والمرأة الشريرة، التي تكيد لها وتعذّبها، والفارس الذي يدخل مخلّصا وعاشقا، إلخ.

أما الكتاب الثاني الذي أتيحت له قراءته فهو لمؤلّف مجهول، أو صار مجهولا في ما بعد، اسمه إميل ريتشيبورغ. كانت تملك الكتاب، بعامل الصدفة أو الخطأ، إحدى القريبات من العائلة، وهي أمّية على الأرجح لكنها، رغم ذلك، كانت تحفظه بعناية وتقدير كبيرين إذ «تحتفظ به ككنز في درج الكومودينو، مغلِّفة إياه بنسيج حريري له رائحة النفتالين». وقد قرأه ساراماغو بنفسه هذه المرة، فكان بذلك «أكبر تجاربي كقارئ». أما الكتاب الثالث فوصل إلى يديه بعامل الصدفة أيضا، وله حكايته الخاصة به، شأن الكتابين السابقين، إذ كان دليل محادثة من البرتغالية إلى الفرنسية، لكن النص الجامع بين اللغتين هو لموليير، ما جعل الكاتب يفخر بأنه قرأ مبكرا ذاك الأديب الفرنسي.

لم يزد الحيّز الذي خصصّه ساراماغو لبداية تعلّقه بالقراءه عن تلك التي تناول فيها الجوانب المتعدّدة من طفولته، أو من فتوته المبّكرة. كل شيء جرى ذكره بقدر يكاد يكون متساوي الأهمية مع سواه. وهو لم ينتقل من ذكرى إلى أخرى، ضمن ترتيب مُدرك أو مخطّط منذ البداية. كانت الأشياء تُروى بلا نظام، هكذا مثلما تجري تداعيات التذكر في رأس متذكّر وقت القيلولة. كما أن الكتاب نفسه لم يحظ بترتيب سياقي يوحّد أجزاءه وينظمها. ذاك أن المتذكّر الراوي، ساراماغو، بدا كأنه يستذكر الماضي في جلسة تضمّه مع أصدقاء ومحبين. من دون حرج يعود إلى استدراك ما كان فاته ذكره. وفي الكتاب كثيرا ما تبدأ المقاطع بجمل استدراكية من قبيل «على عكس ما كنت ذكرت»، أو «حان الوقت لأتحدّث عن…» أو «يتبقى شيء لم أروه».

كأن كتابة اليوميات استراحة من أثقال الكتابة الروائية. إنها استراحة المحارب، أو استراحة من كان محاربا، حيث كتبت هذه اليوميات وساراماغو في عمر الثمانين. في هذا العمر يكون ما جرى في الحياة قد بات بعيدا، بما يكفي ليتساوى المهم بالأقل أهمية، الثقيل الوطأة بالعابر خفيفا رائقا. لهذا لا شيء في تلك اليوميات يعلو عن شيء، حتى وفاة ألكسندر ذي السنوات الأربع، وهو شقيق الكاتب، جرى تذكّرها من غير تقديم ولا تهيئة. في الرواية لم يكن ذلك ليصحّ أبداً.

٭ كتاب جوزيه ساراماغو «الذكريات الصغيرة – سيرة ذاتية» صدر عن منشورات الجمل بترجمة أحمد عبد اللطيف في 141 صفحة، إصدار 2019.

 

  • روائي لبناني






كاريكاتير

إستطلاعات الرأي