في الحداثة والتنوير والشبكات

2020-04-25

كمال عبد اللطيف

(1)

يُواجِه العالم، في الآونة الأخيرة، جملةً من التحوُّلات التي تنبئ أننا أمام بدايات عالم جديد، في طور الانبثاق والتَّشَكُّل. لا تشمل هذه التحوُّلات مراكز القوة والتقدم التقني، بل تنطبق أيضاً على مختلف ظواهر الاقتصاد والثقافة والمجتمع. وإذا كنا نؤمن بأن دينامية التَّعَوْلُم قد ساهمت وتساهم في تعميم مظاهر التحوُّل التي لحقت بالمجتمعات البشرية في العقود الأخيرة، فإن تداعيات ما حصل، أدت إلى هيمنة طقوس المجتمع الاستهلاكي على جميع أَوْجُه الحياة، صانعةً عوالم تطغى فيها العناية بالمظاهر على حساب القيم والمبادئ السامية.

(2)

لم يعد ممكناً التفكير في قضايا السياسة والمجتمع والاقتصاد، وتحوُّلات القيم في العالم المعاصر، انطلاقاً من رؤية فلسفية واحدة مغلقة، فقد تلاشت بصور ملحوظة، الهيمنة التي كانت تمارسها السرديات الكبرى، في مقاربة تحوُّلات العالم وأسئلته في مختلف مجالات الحياة.

(3)

تُعَدُّ الشبكات في عالمنا اليوم العنوان الأكبر لعالم بلا حدود، وهي تُعَدُّ اليوم بمثابة البنية

الاجتماعية لعصرنا، الذي أصبح موجَّهاً بفعل شبكات الإنتاج والقوة والتجربة، بتعبير الباحث الاجتماعي، إيمانويل كاستلز، حيث تقوم الشبكات ببناء عوالم افتراضية في إطار تدفق المعلومات المتعولم، متجاوزة بذلك تصوُّرنا عن الزمان والمكان، وقد ترتب عن ذلك اختراق جميع المجتمعات بالأفعال الجارفة للمجتمع الشبكي وثقافته.

(4)

تخطت شبكات التقليد عتبات واقعنا، واتجهت لاكتساح عوالمنا الافتراضية، منجزةً هيمنة غير مسبوقة على مجتمعاتنا وعلى متخيلنا. فقد مَكَّنَت الفتوحات التقنية في عالم التواصل، من إبداع آليات تسمح بنشر وتعميم مواقف وتصوُّرات لا علاقة لها بالمشترك التاريخي الإنساني. فأصبحنا أمام شبكات تخترق الأمكنة وتستقطب التابعين من كل القارات، حيث تتم عمليات نشر وتعميم تصوُّرات غريبة عن الإسلام والحرب، وأخرى عن الدنيا والآخرة، وما بينهما.

(5)

نتصوَّر أنه لا توجد في التاريخ هُوِيَّة دائرية مغلقة إلا في الأذهان، ويعلمنا التاريخ والفكر المعاصران أن زمن الثبات في التصوُّر الهوياتي انتهى، ذلك أن عصر التحوُّلات المتوالية

والثورات المتلاحقة صنع ما يعرف اليوم بالهويات المتحولة والمركَّبة.. وإذا كنا نؤمن بأن تاريخ البشر في تعدُّدِه وتنوُّعِه يُعَدُّ واحداً، فإن الاختلافات داخل صيرورته لا تصنع الخصوصيات التي تتعالى على وحدته العميقة. ولعل الخصوصيات في تعدُّدها، وفي صيرورتها، ترتبط بمسارات التحول التي لا تنقطع إلا لتنطبق مجدَّداً، وهي تحصل في التاريخ بحساب الجوامع المشتركة بين البشر، الجوامع التي تصنع لها اليوم الآفاق المشتركة للتعايش والتعاون.

(6)

اعتاد الذين يناهضون قيم التنوير في فكرنا العربي، وصف المتنورين في ثقافتنا بِنَقَلَةِ فكرٍ لا علاقة له بتاريخنا، ولا بثقافتنا ومجتمعنا. وتناسوا حاجة مجتمعنا إلى مبادئ الأنوار وقيمه، وقد تأكد هذا في العقود الأخيرة من القرن الماضي، ويزداد تأكداً اليوم، وسط ما نعانيه في مجتمعاتنا من تنامي تيارات التطرّف الديني، بمختلف أشكاله وألوانه.

(7)

نفترض أن سؤال تحديث المجتمعات العربية لا يُعَدُّ اليوم مفتاحاً لتيار سياسي بعينه، إنه سؤال يتعلق بطور من أطوار تحوُّل المجتمعات البشرية في التاريخ، ولأن العرب يُواجِهون في حاضرهم محاولات في نشر أفكار قادمة من أزمنة خَلَت، فستكون مختلف طلائعه، بمختلف تلويناتها السياسية، مطالِبة بالدفاع عن التحديث باعتباره الطريق المناسب للانخراط في عمليات بناء تاريخ جديد، مرتبطٍ بصيرورة تطوُّر الفكر والمجتمع والسياسة والتقنية.

(8)

لا توجد في التاريخ حداثة غربية، وأخرى يابانية، وثالثة إسلامية، فأسس الفعل الحداثي ومرتكزاته في أصولها العامة واحدة، أما الخصوصيات التاريخية فإنها لا تصنع حداثات، بل تمنح سماتٍ محدَّدة لحداثة المجتمعات، سماتٍ ترتبط بتاريخها وثقافتها، وأشكال تَلَقِّيهَا وتفاعلها مع مكاسب تاريخ الإنسانية المفتوح والمتعدِّد.

وتترتب على ذلك نتيجة أساسية نُقِرُّ فيها بالطابع المتعدِّد للحداثة في التاريخ، إنها الحالة المتقدِّمة لرصيد الخبرات العديدة التي بنتها البشرية خلال تاريخها الطويل، نحن نشير هنا إلى المكاسب العلمية والتقنية، كما نشير إلى الديمقراطية وتطوُّر الإنتاج.

إن مآثر الحداثة تبرز في ما ذكرنا وتتعداه، إنها تقف وراء النزعة الإنسانية والوعي التاريخي، وهما معاً من المكاسب الجديدة في التاريخ، متوخِّيةً من وراء كل ما ذكرنا، الإعلاء من شأن الإنسان والإرادة والحرية.

(9)

لا يشير مفهوم الحداثة إلى حضارة، أو ثقافة، أو مجتمع بعينه، وإذا كان من المؤكد أن هنالك مبادئ عامة ومشتركة تُحَدِّد جوانب من دلالته، فإن تجارب المجتمعات البشرية في إبداع وتوطين، ثم تطوير وتلوين هذه المبادئ، تختلف داخل جدليات التاريخ المتواصلة في مختلف المجتمعات البشرية، حيث يساهم التاريخ المحلي لمختلف المجتمعات في منح المبادئ الكبرى للحداثة سِمَاتٍ مُحَدَّدة، تحصل فيها بالضرورة عملياتُ تفاعُلٍ صانعةٍ لحداثة متعدّدة، حداثة تستلهم وتتجاوز في الآن نفسه، أصولها ومبادئها، منابعها وتحوُّلاتها. ما حصل في التاريخ من صور الحداثة والتحديث هنا وهناك، يُعَدُّ في تصوُّرنا عنواناً لإبداعٍ متواصل في سُلَّم الانفصال عن التقليد، إنه فعل تاريخي مركَّب، وميزته الكبرى تتمثَّل في قدرته الدائمة على تجاوز ذاته.

(10)

لا تتمتع خيارات التحديث والعلمنة والدمقرطة بقبول الجميع في مجتمعاتنا العربية، فهناك من

 

"ما حصل في التاريخ من صور الحداثة والتحديث هنا وهناك، يُعَدُّ في تصوُّرنا عنواناً لإبداعٍ متواصل في سُلَّم الانفصال عن التقليد"

يتحمَّس لضرورة تحقيقها، ويعتبرها قدراً تاريخياً لا يمكن تجنّبه، وهناك من يرى أنها خيارات وافدة مع المستعمر ويلزم رفضها، وهناك طرف ثالث، يرى أن أفضل السبل لاستيعاب روحها، يرتبط بعملية إعادة تبيئتها وتمثلها بكل ما تستدعيه هذه العملية، من إعادة النظر في بعض أسسها ومقدماتها، بحثاً عن إمكانية ملاءمة محتواها، مع تاريخنا الذاتي وشروطنا الاجتماعية وتراثنا المحلي، وكذا أسئلة ومقتضيات حاضرنا.


(11)

نقرأ جزءاً هاماً من مُعْضِلات التحديث والتنوير والعلمنة في مجتمعاتنا، في أفق مساعينا الرامية إلى مزيد من امتحان وابتكار الآليات المؤسسة للخيارات التي ذكرنا. ونتصوَّر أنه لا يمكننا تجاوُز صُور مآلاتنا في الحاضر، ممثلة في مختلف أشكال العنف الطائفي، ومختلف أنماط الدوغمائيات المهيمنة على مجتمعاتنا، إلا بمزيد من التحديث والعلمنة، تمهيداً لنشر وتعميم قيم الديمقراطية والحوار والتوافق. كما أن مواصلة مناهضة الاستبداد والفساد، ومختلف أنماط التحكم الحاصلة في مجتمعاتنا، تدعونا إلى مزيد من النضال الحقوقي، المتجه صوب بناء كل ما يساعد على إسناد المشروع الديمقراطي داخل مجتمعاتنا.

(12)

إن إيماننا التاريخي بالحداثة ومآثرها يرتبط بكوننا ننظر إليها كأفق فكري تاريخي مفتوح على ممكنات الإبداع الذاتي في التاريخ، إنها ليست نموذجاً تاريخياً مطلقاً، وهي تتحدَّد أساساً كمقابل للتقليد، حيث لا يمكن تصور إمكانية تَحَقُّقِها بالتقليد. إن سؤال الحداثة، في أصوله ومبادئه الفكرية والتاريخية العامة، يعد باستمرار ثورة على مختلف أشكال التقليد.







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي